مع ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب إلى معدلات غير مسبوقة وبالتوازي مع هجرة الادمغة والشباب اللبناني إلى الاغتراب وكذلك رؤوس الأموال، يبقى المستقبل في سوق العمل اللبناني تحكمه "الضبابية"، ولأهمية الموضوع كان لموقع الهديل حوار مع مستشار الأعمال والمحاضر الدولي- رئيس مجلس إدارة وشريك مؤسس Leap to Success ومحموعة "فيجين" لتمكين الشباب محمود اسكندراني، تم فيه تداول الإشكالات التي يعانيها سوق العمل والأطر التي ينبغي اتباعها لحلحلة المشاكل المستقبلية والحالية لسوق العمل وإتاحة الفرص أمام الشباب اللبناني للبقاء في لبنان وترك الهجرة التي تؤدي لاستنزاف قدرات البشرية والمالية للبنان. وفيما يلي الحوار الذي أجراه موقع الهديل مع المستشار والمحاضر الدّولي محمود اسكندراني:
انطلاقًا من خبرتك كيف تقيّم حاجات سوق العمل اللبناني؟ وما الأسباب التي ادّت لارتفاع معدّل البطالة منذ ما قبل دخول لبنان بالأزمة الاقتصادية؟
أولًا، أنا أؤمن جدًا بقدرة السّوق اللبناني على منافسة الدّول المجاورة، كما يمكنه أن يتعدّى الجغرافيا الضيقة ليُنافس دولًا غربيّة لامتلاكنا مُقدّرات طبيعية وبشرية تكفي لإيجاد اقتصاد زاهر مُبدع، ولكن نحتاج للفرص. وبحال نريد مقارنة لبنان بدول أخرى كانت تمرّ بظروف صعبة كدولة سنغافورة والتي تُعد مثالًا يُحتذى به في للحالة اللبنانية، حيث إنّ سنغافورة صعدت من الحضيض والأزمات الكبيرة التي عانت منها دون أي موارد طبيعية، لكن الإرادة الصّلبة والقيادة المُوحّدة والإيمان بمقدرات البلاد نقلت سنغافورة إلى مجال الرّيادة في آسيا والعالم على صعيد التجارة والسياحة، وأضحت مركزًا رئيسيًا لجذب الأعمال والاستثمارات في منطقتها.
اليوم، مع التحوّل الذي تشهده المنطقة، من المؤكّد أنّ سوق العمل اللبناني يحتاج إلى كثير من الجهد واقتناص الفرص، كالفرص المستقبلية في قطاع الزّراعة الذي يحتاج للدعم والعناية، وفرص النّفط والغاز، والسياحة، والتحوّل الرّقمي، والأعمال الريادية وغيرها… لكن هذه الفرص تحتاج إلى إيجاد بيئة حاضنة لها، وللأسف، خلال الأعوام الثلاثين الماضية، لم يكن الوزراء الذين تولوا وزارة العمل على قدر الآمال والتطلعات، ولم يقم أحد بالعمل بشكل مختلف ليكون شريكًا للشباب ويُساهم بدعم واحتضان المواهب اللبنانية، وبالتالي الحفاظ عليه، ودور وزارة العمل اليوم هو دور مهم ومفصلي، وكذلك الامر لكل الوزارات المعنية بإيجاد فرص عمل للشباب اللبناني والحفاظ على الكوادر، وهنا نسأل لماذا؟
احتياجات سوق العمل اللبناني بالفترة المُقبلة ستكون تعتمد على المهنيين والأخصائيين بمجالات النّفط والغاز والزراعة والهندسة الميكانيكية والحِرَف والقطاعات اللوجستية وخطوط الإمداد والقطاع الطبي وقطاع الإنقاذ وإدارة الازمات وغيرها. اليوم أي شخص عنده وظيفة، من مسؤولية وزارة العمل أن تتأكّد من كفاءته لتولّي المهمة.
هناك الكثير من الأسباب التي أدّت لارتفاع مُعدّل البطالة، ولعلّ أبرزها عدم قيام وزارة العمل في الأعوام الثلاثين الأخيرة على وضع خطط واضحة تتضمن استشرافًا للمستقبل لوضع سوق العمل اللبناني على الخارطة الصحيحة.
في السابق، كانت وزارة العمل موافقة ضمنًا على أنّ المتخرجين اللبنانيين ليسوا فقط للسوق اللبناني، بل أيضًا استثمار يُرسَل للخارج ليكون وسيلة تُبلوِر مكانة لبنان في الاغتراب. ولكن هذا لم يعد نافعًا اليوم، حيث إنّه في الأعوام 15 الاخيرة، محيطنا العربي والخليجي وحتّى الاوروبي يعمل على تمكين الكوادر المحلية، وتحضير قيادات لتتسلم الشّركات والمؤسسات، وتحسين جودة التعليم والتدريب والتطوير، سواءً كان حرفيًا ومهنيًا أو أكاديميًا، ولهذا بدأنا نرى تولّي الكفاءات والمواهب مناصب القيادة والريادة ف العمل في هذه الدّول، وللأسف لم نعمل على هذه الاستراتيجية، حتى وجدنا أنّ اللبناني لم يعد لديه القدرة على المنافسة في الدّول العربية والاوروبية، وذلك لأنّ قطاع التعليم في هذه الدّول بات أحسن من حيث الجودة، وإدارة هذا القطاع مبنية على احصاءات ودراسات ومعطيات، ونحن لم نقم بأي تطوير على هذا الصعيد.
وزارة العمل لم تقم خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة على وضع خطط واضحة تتضمن استشرافًا للمستقبل
السبب الثاني، أنّ متطلبات سوق العمل المحلي لا تتناسب نهائيًا مع مُخرجات القطاع التعليمي، وعلى سبيل المثال، النّظام التعليمي اليوم يعتمد على الاختصاصات النخبوية كالطب والهندسة والمحاماة، فهذا أسلوب نمطي بالاختيار، ولنكون واقعيين، فالشاب اللبناني ليس عنده فرص كبيرة ليتوظّف كمهندس بالخارج، ونحن في كلّ سنة نُخرّج آلاف المهندسين من الجامعات، كم مهندس يحتاج سوق العمل؟ المُخرجات التعليمية لا تتناسب إطلاقًا مع سوق العمل، وغياب الدّعم الكامل عن القطاع المهني والحرفي وعدم تسخير مقدرات الشباب بالمهن شبه المنقرضة كصانع الزجاج والنجار والتدفئة والتبريد والميكانيك الصناعي وغيرها من المهن التي نحتاجها اليوم وغدًا… فأين نحن من الذكاء الصناعي والاستثمار به؟ وأين نحن من اختصاصات إدارة المستقبل؟ ولم يتكلّم أحد عنها إلا بعض الجامعات… أين نحن من إدارة المشاريع؟ أين نحن من الشهادات المهنية التي يمكن أن تساعد الموظّف بتطوير ذاته وإيجاد فرص عمل في لبنان وخارجه؟
السبب الثالث، هو الاقتصاد الريعي في البلاد والذي له تأثير مباشر على سوق العمل والذي لا يسمح للشخص الكفوء بالحصول على فرصة في بلده، كما لا يسمح بتطوير المقدرات القيادية لأنّه حتى داخل الشّركات هناك تدخلات حزبية وحصص طائفية، وهذا كلّه على مرأى من وزارة العمل التي لا تتحرك نهائيًا… وتجدر الإشارة إلى أنّ أهم عنصر من عناصر العمل هو السعادة بالعمل والتكافؤ بالفرص والعدالة… وأين دور وزارة العمل التي لا تتدخل وتقوم بدورها بالحوكمة وحماية حقوق الموظفين واجبار الشركات بأن تكشف أنّ عقود العمل مناسبة للقانون وواضحة وتكشف واجبات ومسؤوليات وحقوق الموظف.
وأيضًا من الأسباب التي أدّت لارتفاع البطالة أنّ سوق العمل اللبناني لا ينتج فرص لعمالة "غير ماهرة"، وبالتالي ليس عندنا فنيين كفوئين وهو سوق ثانٍ لا يمتهنه اللبناني، فيفسح فيه المجال للمنافسين من الدول المحيطة لتأتي وتنافس اللبناني في هذا المجال، والمسؤولية هنا تقع على الأفراد الذين يتجنبون تطوير القدرات المهنية والانتباه على هذا المجال المنتج إلى جانب التحول الرقمي وعنده مستقبل مشرق، وعلى الشاب اللبناني أن يغيّر نظرته إلى المهن، فالعديد من المهن دخل عليها التطوير وزاد انتاجها مع دخول التطور والتحول الرقمي، أي شيء الآن قد يكون "فرانشايز" وهذا ما ينبغي أن يعلمه الشاب اللبناني، كالمطاعم وغيرها من المصالح التي يستطيع تطويرها وبيعها فيما بعد، فعلى الشباب اللبناني أن يكون لديه نظرة لإدارة المستقبل لإيجاد فرص مهارية وتحويلها إلى تجارة منتجة، وبالتالي ستعود بمخرجات إيجابية على الفرد والبلد.
على الشباب اللبناني أن يكون لديه نظرة لإدارة المستقبل لإيجاد فرص مهارية وتحويلها إلى تجارة منتجة
وأيضًا، الشّركات بتكوينها غير منظمة من قبل وزارة العمل، كونها لا تقوم بالممارسات الصحيحة بسبب غياب اشراف ورقابة وزارة العمل، وبالتالي تنمو الممارسات الخاطئة ويصبح العمل عملًا تفضيليًا، وهذا ايضًا يساهم برفع معدلات البطالة وحوّل اللبنانيين لمتسولين عند الاحزاب ليتمكنوا من إيجاد وظيفة، وذلك لأنّ وزارة العمل لم تقم ولا مرة بعملها بشكل صحيح… فأين إحصاءات الوزارة التي تؤشّر إلى احتياجات كل قطاع؟ وكيف تغطي الاحتياجات من الكوادر اللبنانيين وتدريبهم وإلزام الشركات على استقطاب العمال اللبنانيين برواتب عادلة؟ وهذا أيضًا من الأسباب التي أدت لبعد الشباب عن المهن كونها برواتب متدنية، ولكن لو كان الراتب أعلى وتقوم وزارة العمل بدورها بإلزام الشركات بنسبة محددة من العمال الأجانب، عندها نستطيع إيجاد فرص للبناني والذي عليه أن يكون واعيًا لهذه الفرص.
ومن أسباب ارتفاع معدلات البطالة عدم إدراك حاجة السّوق بشكل سليم ومتكامل، فالسوق يحتاج إلى أن يكون أكثر مرونة، ففكرة المنشآت الكبيرة ليست مجدية ونحتاج لدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتقديم التسهيلات المادية واللوجستية والتنظيمية لها لمواكبتها من التأسيسي حتى الازدهار، وهذا أيضًا لم تفكر به وزارة العمل طيلة الـ30 عامًا الماضية.
في أي المجالات ينبغي أن تتم "لبننة العمل"؟ وأي تعديلات يحتاجها قانون العمل اللبناني؟
ينبغي لبننة جميع الوظائف في لبنان، فهو أصغر من أن لا يكون فيه منهج اللبننة، فنحن لا نريد أن نمنع أحدًا من الاسترزاق في بلدنا، ولكن في المجالات والقطاعات التي هي موجودة ولكن ليس فيها كوادر لبنانية تستطيع القيام بالمهمة، فالسؤال: "هل يستطيع اللبناني أن يعمل في محطة محروقات؟ الجواب هو نعم… هل يستطيع اللبناني أن يعمل بقطاعات تحتاج مهارات يدوية؟ الجواب هو نعم، هذه القطاعات ينبغي لبننتها وتطوير اللبنانيين ضمن الشركات وازدهارهم. كذلك قطاع السياحة، ينبغي لبننته 100% حتى بعمال الـCall Center والـDelivery بغض عن المشاكل التي يواجهها القطاع وهنا دور وزارة العمل على مساعدة المنشآت، وأن تتحمّل معهم وتساعدهم في بعض الأوقات، وهذا دورها…
وهنا نواجه مشكلة ينبغي ان يحلّها القانون عبر وضع نسبة مئوية واضحة وصريحة تجبر أصحاب المنشآت اللبنانيين باستقطاب أشخاص من ذوي الكفاءة لبنانيين وإذا لم تكن هناك كفاءة، عندها يلجأ لاستقطاب الأجانب. واللبننة ينبغي أن تكون بالنسب لكل قطاع، فأنا أرى أنّ قطاع السياحة ينبغي أن يكون لبنانيًا بنسبة 90-95% وتباعًا للقطاعات والاختصاصات الأخرى. كما ينبغي للقانون أن يحمي حق العامل اللبناني بالقول والفعل بشكل واضح وأن لا يكون اللبناني عرضة للصرف التعسفي، وينبغي على كلّ شركة أن تقدم تقارير لوزارة العمل بالتطوير والإنجازات التي تقوم بها أكان على صعيد اللبننة أو تطوير الكوادر وتأهيلهم ليكونوا منافسين.
قطاع السياحة ينبغي أن يكون لبنانيًا بنسبة 90-95%
وينبغي استحداث قانون يمنع المنافسة بالشركات الصغيرة والمتوسطة لغير اللبناني، وينبغي أن يكون هناك شريك لبنان لأي أجنبي لديه عمل على الأراضي اللبنانية، وعلى أصحاب المصالح استقطاب أولًا عُمّال لبنانيين حسب تعميمات وقوانين مُلزِمَة من وزارة العمل تحت طائلة المحاسبة، وهذا هو المطلوب. وليس مقبولًا أن تكون الأسواق اللبنانية تشهد منافسة من شركات أجنبية تتميز برشاقة مالية وعُمّالية أفضل.
وعن الشّق الثاني من السّؤال، ينبغي أن يكون هناك قانون لبناني يُجبر صاحب العمل بدفع تعويض شهري واضح للعامل غير اللبناني من باب العدالة بالمنافسة ولا سيما للمنشآت الصغيرة والمتوسطة.
برأيك ما الخطوات التي ينبغي اتخاذها لحماية البلاد من هجرة الأدمغة؟ خصوصًا أنّ الضائقة الإقتصادية دفعت عشرات الآلاف للهجرة بشكل فوري كما تشير الدراسات…
اليوم، عندما لا يكون هناك بيئة محفّزة ضمن الشّركات، وتكون المنافسة غير عادلة وتكون البيئة العمالية بيئة ريعية، وعندما تكون الإختصاصات التي تُضخ في سوق العمل أكبر بكثير من احتياجاته، فيكون من الصعب جدًا الاحتفاظ بهذه الأدمغة لأنّها بحاجة للازدهار والنمو. وهنا نعود لنؤكّد على دعم وتطوير الناس وتأمين الفرص لهم وتأمين الحاضنات وإلزام الشّركات بالتوظيف العادل، وإقرار قوانين تردع الممارسات الطائفية والمذهبية أو تفضيلية أو حزبية ضمن سوق العمل، لإتاحة التوظيف ضمن الكفاءة.
اليوم لا يوجد شركات تنتهج تقديم تقارير عن معايير الكفاءة وكيفية توظيفها وتطويرها لوزارة العمل، وبالتالي لحماية الأدمغة من الهجرة، لا بدّ من العدالة التنافسية، والعدالة في إيجاد فرص عمل بعيدة عن التبعية السياسية والطائفية والمذهبية، واحتضان الأدمغة والاعتناء بها وتحفيزها للنمو.
فلو نظرنا إلى الحالة الإقتصادية الصعبة اليوم، فمن يملك مبلغًا من المال مثل 50 أو 100 ألف دولار فلا شيء يُحفّزه للبقاء حيث يُفضل الهجرة لاستثمار المال في الخارج، فالدولة مُطالبة بالمرونة للحفاظ على رؤوس الأموال اللبنانية والأدمغة اللبنانية وإتاحة الفرص أمامهم للإبداع، واتخاذ خطوات كتخفيض الإيجارات والرّسوم وفتح أسواق مختلفة، وبناء مدن صناعية وهي كلفتها ليست بعالية، واستقطاب مستثمرين من الخارج وتهدئة الاحتقان السياسي، وليروا كيف سيبني الشباب اللبناني الدولة من جديد.
اليوم لا يوجد شركات تنتهج تقديم تقارير عن معايير الكفاءة وكيفية توظيفها وتطويرها لوزارة العمل
فلو قامت الدولة ببناء مدن صناعية أو تجارية أو اقتصادية أو حتى فنية بإيجارات رمزية يعود ريعها للبلديات بتنظيم من وزارة العمل فلا سبب لهجرة الشباب بعد الآن بحال أمّن العيش الكريم.
ما المجالات التي ينبغي على الجامعات إدخالها ليتماشى النظام التعليمي اللبناني مع الحاجات العالمية وخاصة مع بروز العديد من الإختصاصات الجديدة التي قد لم نسمع فيها في لبنان؟
عندما نخطط لمستقبل غير واضح وبلا أي دراسات فالنتيجة مستقبلًا ستكون كما نحن اليوم، وعلينا أن ندرك أنّ كثيراً من الوظائف والاختصاصات ستندثر مستقبلًا أو سيطرأ عليها تغيرات جذرية كالمحاماة والطب ووظائف القطاع الطبي والمحاسبة والتسويق بشكلهم الحالي وغيرها ويطول ذكرها في وقت لاحق.
المستقبل هو تحولي، حيث سيشمل إدارة المعلومات والتحول الرّقمي، كـ"إنترنت الأشياء" والـ"Health Information Technology" حيث سيكون الطاغي في القطاع الطبي الـBiomedical Engineering، اليوم تحوّلنا من 3 عصور "أنا أعلم وأنت لا تعلم" و"النهضة الصناعية" و"عصر الإدارة الذي هو "نحن نعلم"" واليوم نتجه إلى عصر المعلومات والذي لا يعلم ضبابيته أحد، الشّركات اليوم تحتاج اختصاصيين وشهادات وخبرات في الـ"Big Data" أو البيانات الكبيرةـ، والذكاء الصناعي، كما أنّ الهندسة الكيميائية هي من الاختصاصات المطلوبة في المستقبل، وكذلك التمريض، وإدارة الإنشاءات وليس الهندسة، الهندسة الكهربائية سيكون أيضًا أمامها حظوظًا كبيرة، فينبغي على وزارة العمل أن تُنسّق مع وزارة التربية وأن تهيء الأرضية للشركات أن يكون عندها تحول رقمي في مكان ما، وعلى الحكومة أن تعمل على "الحكومة الإلكترونية" وأعتقد أن لوزارة العمل فرصة كبيرة للعمل على هذا الامر في المستقبل.