خاص الهديل…
قهرمان مصطفى
لعل الجولات التي قام بها الرئيس السوري أحمد الشرع خلال اليومين الماضيين على عدد من المحافظات والمدن السورية شكلت حدثاً بارزاً تابعه السوريون في الداخل والخارج بكل تفاصيله، حيث راقبوا الحدث منذ بدايته، ولعل أبرز ما لفت متابعي جولته عندما قال أحد المواطنين للشرع خلال محطته الأولى في إدلب: “الله محييك يا شيخ، ما أحلى يلي ما ينسى أهله”، وصولاً إلى احتشاد الأهالي حوله في الساحل السوري.
لا شك أن جولات الرئيس السوري المتتالية على المحافظات حملت رسائل سياسية موحّدة، إلا أن كل محطة من محطات الزيارة عكست خصوصية محلية تستدعي قراءة متأنية؛ حيث تباينت الأولويات والتحديات من منطقة إلى أخرى، وتنوّعت الرسائل والدلالات لكل زيارة.
البداية كانت من إدلب، حيث لاحظ كثيرون أن زيارة الشرع إلى إدلب لم تكن مجرد محطة بروتوكولية ضمن جولته على المحافظات السورية، بل جاءت في سياق رد الجميل لمحافظة احتضنت ملايين السوريين في ذروة المحنة وحرب نظام الأسد على الشعب السوري، ومنها انطلقت الرصاصة الأولى لرحلة دحر نظام الأسد بفترة قياسية لم تتجاوز 12 يوماً.
إدلب، ورغم سنوات الحرب وما رافقها من تحديات، قدّمت نموذجاً أولياً لما يمكن أن يكون عليه مستقبل سوريا، حيث ذابت الفروقات المناطقية والقبلية والطائفية تحت وطأة المعاناة المشتركة، وحضر الشعور الوطني العام في أبرز اللحظات المفصلية؛ فمن بين جميع المناطق السورية، شكّلت إدلب الركيزة الأساسية لقلب الطاولة على بشار الأسد، بعدما كانت توصف على عهده وأبيه بالمدينة المنسية، حيث عانت التهميش في سياسات التنمية والخدمات.
زيارة الشرع لإدلب لم تمنعه من زيارة مخيماتها، فقد حملت الزيارة أبعاداً سياسية واجتماعية تعكس توجهات المرحلة المقبلة، فمنذ سنوات، تحوّلت إدلب إلى أكبر تجمع للنازحين السوريين، حيث ضمّت مئات الآلاف ممن هُجّروا قسراً من مختلف المحافظات، وربما تحمل الزيارة في طياتها رسالة مفادها أن الدولة لا تتجاهل معاناة النازحين، ومن خلال تواجده المباشر في المخيمات، يحاول الشرع توجيه رسالة تطمين بأن النازحين ضمن الحسابات، إذ وعدهم بأن من أولويات الدولة إعادة المهجّرين إلى مناطقهم وإعادة إعمار منازلهم، طالباً منهم القليل من الصبر.
المحطة الثانية للرئيس السوري كانت محافظة حلب، فالزيارة لهذه المحافظة تحمل رسائل تعكس الأهمية الاستراتيجية والتاريخية، إذ كانت أول محافظة تسيطر عليها الفصائل خلال معركة “ردع العدوان”، وكان هذا الحدث نقطة تحوّل كبرى انتهت بإسقاط الأسد والوصول إلى دمشق.
وعليه تعكس زيارة الشرع إلى حلب إدراكه لضرورة إعادة إحياء هذه المدينة، التي لا يمكن لسوريا أن تستعيد عافيتها الاقتصادية دون استقرارها وعودة دورها الإنتاجي، بوصفها العاصمة الاقتصادية للبلاد؛ فلسنوات، عانت حلب من دمار واسع في بنيتها التحتية، إلى جانب تحديات اقتصادية كبرى جعلت الكثير من مصانعها وأسواقها خارج الخدمة، ومن خلال زيارته، ربما يحاول الشرع توجيه رسالة بأن هذه المدينة ليست منسية، وأن هناك توجهاً نحو إعادة الاهتمام بها على المستويات كافة.
الحدث الأبرز الذي لاقى صداً خلال جولات الرئيس السوري هو زيارته إلى مدينة عفرين شمالي حلب ، تلك المدينة التي عانت من انتهاكات خلال السنوات الماضية، سواء بحق سكانها الكُرد أو من خلال تقاسم الفصائل العسكرية لنواحيها، وتحويلها إلى ثكنات عسكرية خاضعة لمنطق النفوذ والمحاصصة.
وربما يحمل دخول الرئيس الشرع إلى عفرين رسالة واضحة بأن واقع الأمس قد اختلف، وأن سلطة الدولة باتت المرجعية الوحيدة في المنطقة، بعد أن عانت طويلاً من حالة التفكك والانفلات الأمني، كما تؤكد الزيارة أن المرحلة الحالية تقوم على إنهاء المحاصصة العسكرية، وإعادة فرض النظام المؤسساتي بدلاً من الهيمنة الفصائلية.
بالانتقال إلى جولات الشرع لكل من اللاذقية وطرطوس؛ فالزيارة التي قام بها الرئيس السوري أحمد الشرع لهاتين المحافظتين تتجاوز كونها مجرد محطة ضمن جولته في المحافظات السورية، حيث وصفت الزيارة بأنها “انتحار دبلوماسي”، في ظل وجود مئات من فلول نظام الأسد في المنطقة، وهو ما أثار مخاوف من خروقات أمنية قد تستهدفه، لكن المفاجأة كانت في حجم الالتفاف الشعبي حوله، حيث أظهرت المقاطع المصورة آلاف السكان يرحبون به، في مشهد يعكس مدى التحول الذي شهدته هذه المناطق، ويفنّد تماماً مزاعم الأسد المخلوع بأن الساحل كان حصناً حصرياً لسلطته؛ ومن جهة ثانية تكسر هذه الزيارة التصورات النمطية التي سعى نظام الأسد المخلوع إلى ترسيخها لعقود، والتي حاول من خلالها تصوير الساحل السوري كمعقل حصري لولائه. إلا أن الوقائع أثبتت زيف هذا الادعاء.
من هنا يمكن القول أن زيارة الشرع تحمل رسائل طمأنة، ليس فقط لسكان الساحل، بل لكل السوريين، بأن المستقبل لا يُبنى على الثأر، بل على المصالحة الوطنية الحقيقية التي تعترف بالمظلومية وتحاسب المجرمين دون أن تعيد إنتاج دوائر الإقصاء.