خاص الهديل….
بقلم: ناصر شرارة
طالما كان البيان الحكومي في لبنان هو نتاج أقصى ما يمكن ذكره من التوافقات، وأقل ما يمكن تحاشي ذكره من الخلافات. فهو غالباً ما تتم صياغته على نحو يحاكي مضمون مقولة صائب بك سلام عن “لا غالب ولا مغلوب” فلا يستثير كل غضب “الطرف الأول” ولا يشفي كل غليل “الطرف الثاني”؛ وهو أيضاً في جانب آخر منه يصح عليه وصف تقي الدين الصلح له عندما اعتبر أنه – أي البيان الوزاري – أقل أهمية من بيان الاعتذار عن الاستمرار بالتشكيل؛ فالبيان الأول يراعي جميع الأطراف السياسية وذلك لدرجة أنه بالمحصلة لا يقول شيئاً عملياً، فيما البيان الثاني يكشف أخطاء جميع الأطراف السياسية وذلك لدرجة أنه لا يتبنى شيئاً لا تستطيع الحكومة فعله..
الخلافات التي تثار على طاولة البيان الوزاري مصدرها تباينات لا يحسمها اتفاق أو اختلاف ممثلي القوى السياسية الذين يناقشونها؛ بل تحسمها سلباً أو إيجاباً موازين القوى القائمة على الأرض، وتلك الإقليمية المهيمنة على مناخ البلد. فحينما كان حزب الله موجوداً من اليمن في البحر الأحمر حتى الناقورة على البحر الأبيض المتوسط كان بند “شعب؛ جيش؛ مقاومة” هو أول بند وآخر بند في البيان الوزاري؛ وحينما انسحب وجود حزب الله ليصبح محل نقاش حول أين يتواجد شمال الليطاني أم جنوبه؛ أصبح بند “شعب وجيش ومقاومة” محصوراً داخل نقاش تقني على طاولة لجنة صياغة المخرج الكفيل بانتاج بيان يعبر عن موازين قوى مستجدة أقل ما يقال فيها أنها ليست لصالح حزب الله..
.. لكن بيان حكومة نواف سلام الذي نقل بندقية المقاومة من كتف الشعب وحزب الله و”سرايا المقاومة” و”وقوة الرضوان” و”وحدة العباس”، إلى كتف الدولة اللبنانية؛ يستثير إشكالية عن طبيعة هذه المهمة وعن استعداد هذه الدولة بوضعها الحالي للقيام بهذه المهمة. والسؤال أو الإشكالية هنا لا تتعلق بالجيش اللبناني؛ فالأخير موجود في الجنوب؛ ومجرد وجوده هناك هو مقاومة؛ أما الدولة فهي عادة ما تصل متأخرة إلى الجنوب، وأحياناً يكون سبب ذلك نقص إمكانات وأحياناً تلبد في غيوم الحسابات؛ ودائماً بسبب عدم وجود قرار سياسي واضح وقادر وفاعل.
بكل الأحوال هذه أول مرة منذ العام ١٩٤٨ تعلن فيها الدولة اللبنانية أنها هي مقاومة لبنان الرسمي والشعبي، وأن رئيس الوزراء نواف سلام هو المجاهد الأكبر في هذه المقاومة الرسمية، ومعه شهادة رسمية (البيان الحكومي) مذيلة بطابع أميري تثبت منزلته ورتبته هذه..
ورغم أن تبني نص بند الدولة والمقاومة في البيان الوزاري يوحي بأن الشكل في هذا البيان يبدو أكبر لجهة الفعالية، من المضمون؛ إلا أن تبني الوزراء لهذا النص يعتبر تطوراً غير مسبوق وخطراً (بمعنى مهم)؛ رغم أن أغلب الوزراء فعلوا ذلك من باب أنهم يحلون مشكلة ويقطعون أزمة، وليس من باب أنهم يضعون يدهم على مشكلة تاريخية من جهة وربما يفتحون الباب على مشكلة جديدة من جهة ثانية..
أما لماذا هذا البند عن الدولة والمقاومة يضع الإصبع على مشكلة تاريخية، فتعود بداية السبب للعام ٤٨ حينما أعطيت عملية إسناد لبنان لمجهود تحرير فلسطين إلى “جيش الإنقاذ العربي”؛ وكانت النتيجة أن جيش الإنقاذ لم ينقذ فلسطين ولا حمى حدود لبنان من إسرائيل؛ وبعد وقت غير قصير تكرر الخطأ وأصبح بنظر كثيرين خطيئة؛ وذلك حينما نقل اتفاق القاهرة عام ١٩٦٩ مسألة الجهد العسكري لتحرير فلسطين من الأردن إلى لبنان؛ وتم تخصيص منطقة العرقوب لتصبح “دولة أرض حرب تحرير فلسطين” تحت مسمى “فتح لاند”؛ ولكن سرعان ما أصبح كل لبنان هو دولة “فتح لاند” وميدان لتبادل إطلاق النار في حرب التحرير المفتوحة؛ بينما منطقة فتح لاند صارت ميدان لتبادل إطلاق رسائل التسوية الفلسطينية الإسرائيلية. وطوال العقود الثلاثة الماضية أعطى مفتاح اتفاق القاهرة لحزب الله فصار هو كل المقاومة اللبنانية والعربية والإسلامية والأممية ضد إسرائيل والاستكبار العالمي؛ وقبله أدت الحركة الوطنية اللبنانية قسطاً من هذا الدور.
والخلاصة هنا هو أن الدولة اللبنانية لأول مرة منذ العام ٤٨ تقول “أنا المقاومة” و”أنا جيش الإنقاذ” و”أنا فتح لاند” و”أنا قوات الأنصار” وأنا “وحدة الرضوان” وأنا “خط تبادل النار وخط تبادل رسائل الحرب والتسوية..”.
.. والسؤال الخطر هنا هو هل ستنجح الدولة بتأدية هذا الدور على نحو لا يجعلها تفشل كما حصل مع السابقين؛ وعلى نحو لا يجعلها تخطيء الحسابات في حرب الأنصار، فتستثير غضب واشنطن وتصنفها أنها انتقلت من دولة حزب الله لتصبح مقاومة رسمية في دولة، وليس دولة رسمية لديها مقاومة عسكرية!؟.
قد يكون غاب عن وزراء لجنة صياغة البيان الوزاري أن مشكلة واشنطن ترامب أو بايدن أو أوباما أو أيلون ماسك هي مع فكرة المقاومة، وليس مع حزب الله بذاته أو حماس بعينها، أو فتح أو مع جيش الإنقاذ؛ وعليه فإن أهم شيء لدى البيت الأبيض هو أن يكون البيان الوزاري لا يعبر عن نقل بندقية المقاومة فعلياً من كتف الشيخ نعيم قاسم إلى كتف القاضي نواف سلام لأنه حينها ستصبح العلاقة الأميركية مع الشيخ نعيم قاسم “زيت وسمنة” ومع القاضي نواف سلام “علقم وشوك الصبار..”.