خاص الهديل….
بقلم: ناصر شرارة
كان متوقعاً ما حدث بين ترامب وزيلنسكي؛ ولكن مع ذلك يظل ما حدث مستغرباً ويدعو للدهشة.. قليلة وربما نادرة هي الأحداث المشابهة التي يتخلى فيها رئيس أقوى وأكبر دولة في العالم عن تقاليد التحادث الدبلوماسي ويتفوه بعبارات تهين ضيفه رغم وجوده في مقره الرئاسي الرسمي.
.. لكن ما حدث يتعدى فضيحة الشكل ليسلط الضوء على حقيقة تدعو للقلق وهي أن العالم في لحظة غير متوازنه؛ وهو أشبه بقطار يسير بسرعة ضوئية من دون كوابح؛ وأخطر ظاهرة يشهدها العالم أنه متفلت من مدار الجاذبية السياسية المتوافق على تسميتها بالنظام الدولي.
القصة لم تبدأ مع وصول ترامب للبيت الأبيض سواء عام ٢٠١٦ أو عام ٢٠٢٤؛ بل بدأت مع حرب العراق عام ٢٠٠٣؛ حينما قررت أميركا وبريطانيا أنه باستطاعتهما غزو أي بلد من خارج موافقة الشرعية الدولية. هذه السابقة فتحت الطريق أمام عُرف دولي سيطر على العلاقات الدولية ومفاده أن القوي يستطيع أن يمد يده على الضعيف؛ وأن الاحتكام إلى مبدأ توازن القوى حل مكان مبدأ الاحتكام إلى القانون الدولي كمعيار لحل الأزمات الدولية.. تتالت بعد العام ٢٠٠٣ العديد من أحداث الغزوات في غير منطقة من العالم؛ كان آخرها ما حدث في أوكرانيا وما حدث بين أذربيجان وقراباخ ثم في غزة ولبنان وحالياً في الضفة الغربية، الخ…
في الواقع إن ترامب في جزء من خلفية مواقفه يمثل تعبيراً عن هذا التوجه الأميركي الذي أعلن بصراحة في العام ٢٠٠٣ أن قوته وليس القانون الدولي هو من يحدد حصته العالمية.
غير أن ترامب يمارس هذه المقولة على نحو فج ومن دون أن يغلفها بمسوغات ديموغوجية.. وثمة أمور أخرى لا بد من لحظها حتى يصبح ترامب بالقدر الممكن مفهوماً للمواطن العالمي: أبرزها أن ترامب في كنهه هو مطور عقاري فاشل؛ فالذين يعملون في هذه المهنة هم بالعادة أشخاص يملكون خيالاً عالياً يمكن مثلاً من جعل حفنة الرمل مدينة عامرة (كدبي، الخ..)؛ ولكن ترامب عوض فشله كمطور عقاري ينقصه الخيال المبدع بالتركيز على موهبة لديه هي التسويق والقدرة على جعل التفاوض تشبه حفلة المصارعة الحرة؛ وبالمحصلة أصبح ترامب “مسوقاً عقارياً ناجحاً”؛ ونجا من التقوقع في سجن أنه “مطور عقاري فاشل”.
وهذه النقلة بين فشله كمطور عقاري ينقصه الخيال المبدع من جهة وبين نجاحه كمسوق عقاري يتميز بأنه “مفاوض مصارع” هي الأمثولة التي وصلت إليه والتي صارت تصاحبه في عمله السياسي؛ وعليه فإن صورته الراهنة هي كالتالي: أنه يعتمد على إبداع ماسك كمطور للحياة كلها وليس فقط للعقارات؛ فيما هو يسوق إبداع ماسك ويحصل على المواد التي تلزمه بأرخص الأسعار؛ معتمداً بذلك على الفرض وتطبيق نظرية المفاوض المصارع.
والواقع أن الطريقة التي أدار بها ترامب جلسة تفاوضه أمس مع زيلنسكي هي تجسيد لكل ما تقدم عن قصة ترامب المسوق العقاري المصارع. فهو طبق أمس نظريته وتقصد أن يفعل ذلك أمام الكاميرات وكل الإعلام؛ لقد أراد أن يراه العالم كله كيف يفاوض وكيف يجعل مفاوضه بين قبضتيه كريشة في مهب الريح. والطريقة التي اتبعها هي ذاتها حيث وجه عاصفة تهجمات صاخبة ضد زيلنسكي؛ وقال له أنت لا تملك وسائل حتى تفاوضني، وأنت غبي، وأنت متهم بأنك تعرض العالم لحرب عالمية ثالثة، وانت يجب أن تكون ممتناً لأميركا التي دعمتك حتى تبقى موجوداً، الخ… وبنهاية الجلسة ترك ترامب زيلنسكي وحيداً وذلك بانتظار الخطوة التالية من مفاوضات المصارع؛ وبموجبها سيقول ترامب لزيلنسكي المنهك ما تريده واشنطن من أوكرانيا؛ وهو أمر واحد مفاده أن يوقع مع روسيا على الاتفاق الذي اتفق ترامب وبوتن عليه. فنظرية الإدارة الأميركية الجديدة على عكس نظرية بايدن الذي كان يريد من بوتين صك استسلامه لأوروبا ولأميركا؛ فيما ترامب ونائبه وماسك لا يريدون التنازلات من روسيا بل يريدون التنازلات من أوروبا وأوكرانيا.
بالأساس إن مادة التيتانيوم الموجودة في أوكرانيا والتي تحتاجها مشاريع ماسك؛ هي عملياً موجودة في المنطقة الأوكرانية التي تحتلها روسيا؛ وعليه فترامب يمكنه أخذ التيتانيوم الأوكراني بأرخص ثمن من روسيا التي لا تملكه وتسيطر عليه.
يبقى هناك سؤال مهم وهو ماذا يريد ترامب من أوروبا ولماذا يريد التقرب من بوتين؟؟.
السؤال الأول كبير والإجابة عنه مركبة ولكن ما يطفو على سطحها الآن هو الخلاف الثقافي الحاد بين اليمين المحافظ في أميركا والصاعد في أوروبا من جهة وبين الليبرالية الجديدة التي تقود أوروبا والتي يتهمها ترامب بالليبرالية اليسارية المتطرفة التي تخرب قيم العائلة وتسمح بالإجهاض وبسطوة المهاجرين على المجتمعات الغربية، الخ..
أما بخصوص بوتين فإن ترامب يذهب إليه لأسباب كثيرة أبرزها أن الترامبية تحترم الأقوياء وتفضل التعامل معهم؛ وثانياً لأن بوتين يمكن أن يفتح ترامب معه ملف الصين وملف إيران وأيضاً ملف أوروبا بعد هزيمة القارة العجوز البيضاء في أوكرانيا!!.