خاص الهديل….
بقلم: ناصر شرارة
رغم النار التي تحيط بلبنان من كل الجهات؛ إلا أن البلد لا يزال يرغب بأن يبدأ حالة من البناء بمناسبة العهد الجديد والحكومة الجديدة والمناخ العام المؤيد لانتشال الدولة والاقتصاد من الحفرة العميقة.
لكن السؤال هو من أين يمكن أن تكون البداية؛ أو كيف يقول العهد أنه لا يملك فقط نية جديدة بالإصلاح، بل وهذا الأهم، يملك منطقاً جديداً وعملياً لمقاربة هدف الإصلاح؟؟.
وبمنطق آخر كيف يجب على رئيس الجمهورية أن يفكر: هل عليه أن يكون “طربوش الإدارة أم “رئيس الجمهورية والدولة المنتجة”؟.
هذا السؤال ليس جديداً. سبق للصحافي ميشال أبو جودة أن وجهه للرئيس سليمان فرنجية بعد انتخابه رئيساً للجمهورية. وفحوى السؤال هو أن السياسيين من وزراء ونواب ونافذين هم “دهريون” ولديهم جيش داخل الدولة إسمه المدراء العامون ومسؤولو الإدارة العامة بمختلف قطاعاتها. وهؤلاء السياسيون يقيمون الدنيا ولا يقعدونها على رأس فخامة الرئيس من أجل تعيين شخص بعينه في منصب مدير عام وزارة الزراعة مثلاً. وبعد شد وجذب وأخذ ورد يؤدي لإضاعة وقت العهد ووقت الحكومة ووقت الإنتاج؛ يكتشف فخامة الرئيس أن الخلاف كان على من يشغل منصب مدير عام وزارة الزراعة، بينما موسم التفاح اللبناني لم يجد أسواقاً له لا في الداخل ولا في الخارج وكسد في أرضه.. وكذا الحال بالنسبة لمدير عام وزارة العمل مثلاً، حيث يمكن بعد أخذ ورد وتضييع وقت الانتاج الإتيان بمدير عام للعمل، ولكن يكتشف فخامة الرئيس بعد فوات الأوان أن طوابير الشباب تقف على أبواب السفارات بغرض الحصول على اذونات هجرة للعمل في الخارج، الخ.
السؤال هنا هل يريد رئيس الدولة أن يكون “طربوش الإدارة” أم “رئيس الدولة المنتجة”(؟؟)؛ بمعنى هل يجب ان يكون إسم مدير عام وزارة الزراعة أهم من مصير موسم التفاح؛ أم العكس(!!)؛ وهل يجب أن يكون إسم مدير عام وزارة العمل، أهم من ملف هجرة الشباب من لبنان، أم العكس(؟؟)..
معظم رؤساء الجمهورية السابقين لو قدر لهم أن يعودوا لقصر بعبدا لكانوا راجعوا أنفسهم واختاروا أن يخوضوا معارك مصير موسم التفاح وملف هجرة الشباب، وليس معارك إسم مدير عام وزارة الزراعة، الخ(..)…
والفكرة الأساس هنا والموجودة خارج الصندوق، هي أن المدراء العامين ليسوا موظفين من كوكب آخر بل هم موظفون يسقطون على إدارات الدولة من سماء الحياة السياسية المعاشة.. وعليه لا يمكن مثلاً لعاقل أن يقول أن الحياة السياسية فاسدة والإدارة العامة ملائكية؛ وعليه يجب التركيز على جعل الحياة السياسية داخل القسم الأعلى من الدولة ملائكية وحينها ستضطر الإدارة للانصياع للسقف الذي يحكمها في الدولة، وبالتالي ستضطر عملياً للخروج من جلباب الفساد السياسي الذي تنتمي إليه خارج الدولة.
مثلاً إذا كان وزير العدل صالحاً فإدارات العدلية سوف تنظر إليه وهي توقع المعاملات وتجري جلسات المحاكم.. وإذا كان وزير الداخلية شفافاً فإن الإدارات التابعة للداخلية سوف تخشى من شفافية وزيرها.
.. مثلاً حينما انتخب بشير الجميل رئيساً للجمهورية لم يكن بعد قد جلس وراء مكتبه في قصر بعبدا، ولم يكن بعد سمى مديراً عاماً واحداً في إدارة الدولة، ومع ذلك حينما جاء موعد أول يوم عمل في عهده حرص موظفو الدولة من رتبة مدير عام إلى آخر حاجب في دائرة حكومية على أن يكونوا وراء مكاتبهم عند الساعة صفر المخصصة لبدء الدوام الرسمي؛ وبالتزامن هرب السماسرة من الوزارات حتى قبل أن يلاحقهم شرطي واحد..
وهذا المثل يقول أن الثورة من فوق ممكنة وأن رأس الدولة أو القسم الأعلى من الدولة تستطيع أن تكون هي حجر الرحى في عملية الإصلاح؛ وبالتالي يمكن القول ان الإدارة مهمة، ولكن قرار إصلاحها إما أن يكون سياسياً أو أن يكون يجعلها تهتاب النموذج الذي يحكمها، أي الوزير الشفاف؛ ودولة الرئيس الفاعل، وقبل ذلك فخامة الرئيس الذي أقسم على الدستور ليحمي البلاد والعباد..
والنتيجة التي يخلص إليها هذا النوع من المقاربة هي أنها تدعو العهد الجديد وحكومته الجديدة إلى انتهاج استراتيجية “ثورة إصلاحية من فوق” وليس “ثورة إصلاحية من تحت”.
ببساطة لا يمكن بالظرف الراهن القيام ” بثورة إصلاحية من تحت” ذلك أن العهد لا يملك الوسائل والأدوات؛ فالبلد لا توجد فيه حيوية الطبقة الوسطى؛ ولا حتى “وعي الإصلاح” الذي لا يزال – رغم كل القصائد التي تمجده – محصوراً في نخب منعزلة حتى داخل طوائفها وحتى داخل بنى بيئات الحكم القديمة والجديدة. يبقى هناك إمكانية لأن يبدأ “الإصلاح من فوق”؛ من قصر بعبدا ومن السرايا الكبير نزولاً حتى آخر وزير وآخر مستشار للوزير؛ وهكذا تكون الإدارة ومدراؤها العامون ومن معهم محكومون بوزراء شفافين يتابعون ما حصل لموسم التفاح وملف هجرة الشباب، الخ.. ويساءلون النتائج الخاصة بهذه الملفات بالعقاب والثواب.
لا يعني ما تقدم أن إسم مدير العام ليس مهماً وسجله ليس مهماً، بل لا يجب أن يكون هو هدف معارك فخامة الرئيس الإصلاحية؛ ذلك – مرة أخرى – لأن الإهتمام بتصريف موسم التفاح أهم من صرف كل الإهتمام بتمرير إسم هذا المدير العام أو ذاك..
إلى ذلك فإن معارك السياسيين لتحصيل حصصهم في الإدارة العامة ليس فقط هدفها تأمين استمرار الزبائنية وممارسة الزعامة بوصفها تتغذى من بقرة الدولة الحليب؛ بل هذه المعارك تستخدمها أحزاب الطوائف بغرض شد عصب قواعدها عن طريق الإيحاء بأن هذه الطائفة أو تلك أخذت بقوة زند زعمائها حصتها داخل الدولة التي ليس لها زند أو أهل أو من يقول: أنا حصتها.
.. وعليه يمكن القول بثقة أنه ليس الآن وقت “الإصلاح من تحت”؛ بل هو وقت تجربة “الإصلاح من فوق”، الرقابة من قصر بعبدا والسرايا الكبير على الوزراء.. واتباع منهجية أن كل وزير يتابع نتائج ما تنجزه الإدارة العامة في وزارته.. الفكرة الجديدة هنا هي أن الوزير هو نقطة بداية الإصلاح في الإدارة العامة؛ فهو المسؤول عن فساد آخر موظف فيها؛ وهو المسؤول عن موسم التفاح الذي هو أهم من مدير عام وزارة الزراعة..