خاص الهديل…
بقلم: ناصر شرارة
يمتد شرق المتوسط جغرافياً من المثلث الليبي التونسي وصولاً حتى فلسطين؛ وعدما حفرت مصر قناة السويس زادت أهمية هذه المنطقة بالنظر لأنها أصبحت ممراً لنسبة عالية من التجارة الاوروبية والصينية.
وتوجد على سواحل المتوسط وداخل لجج بحره ثروات طبيعة ومكان غاز كثيرة؛ ولكن مخزون الطاقة في المتوسط لا يؤثر على رسم خارطة الطاقة العالمية ولكنه بالتأكيد يسهم في تأمين استقرار مستديم اقتصادي وبالتالي سياسي واجتماعي لدول منطقته.
وتعتبر مصر أقوى دول شرق المتوسط عددياً؛ وهي طورت في السنوات الماضية اسطولها البحري ولكن التحديات الناشبة بوجه القاهرة تجعلها تصبو إلى إعادة الهدوء للبحر الأحمر لإنهاء مسار انخفاض مداخيل قناة السويس، وأيضاً يجعلها تتطلع لاستخراج غازها المدفون على سواحلها لتجاوز أزماتها الاقتصادية.
.. اليونان أيضاً لديها أيضاً أزماتها الاقتصادية ومديونيتها الكبيرة؛ زد على ذلك مشاكل جنوب قبرص الاقتصادية؛ وتفلت حبل الأمن وتفكك الدولة في كل من ليبيا وسورية؛ عدا وضع لبنان المسجون داخل لعبة الإقليم المستعصية.
كل هذه العوامل تؤدي إلى استعار الحرائق في شرق بحر المتوسط؛ والأنكى من ذلك فهي حرائق تنذر بعدم إمكانية إطفائها بل تؤشر للمزيد من استعار نارها على خلفية تأجج الصراع الدولي والإقليمي من جهة للهيمنة على خطوط نقل الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا؛ ولأسباب اخرى تتعلق من جهة ثانية بتفجر صراع الهويات الدينية والمذهبية.
لا شك أن هناك عوامل أخرى محددة وواضحة واستراتيجية ترشح منطقة شرق المتوسط كي تكون هي بؤرة الاضطرابات والحروب في العالم؛ وذلك بالتوازي مع موجة اضطراب خطر ستسود جنوب آسيا على خلفية عودة أزمة كشمير للتفجر.
يسمي المراقبون قضية كشمير بأنها قضية فلسطين جنوب آسيا، بالنظر لكونها قضية تاريخية مزمنة استعصت عليها الحلول؛ وبالنظر لكونها أيضاً تحمل خلفيات صراعية حيوسياسية وقومية ودينية، الخ..
وثمة مدرسة في التفكير السياسي تعقتد في هذه اللحظة أن العالم سيشهد تداعيات تفجر أخطر قضيتين في وقت واحد وهما أزمة قضية كشمير في جنوب آسيا وأزمة قضية فلسطين في شرق المتوسط بخاصة وفي الشرق الأوسط بعامة..
تكفي نظرة عامة على ميدان شرق المتوسط لتتظهر صورة حبلى بجينات الصراعات: قبل ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ كان هناك ما يمكن تسميته بتفاهمات على الغاز وعسكرية تقودها فرنسا في شرق المتوسط وتضم إسرائيل واليونان ومصر وجنوب قبرص؛ وكان من بين أهداف هذا التجمع – أو بتعبير أدق هذا “التجميع” لهذه الدول التي لا تملك أن تصبح حلفاً – كبح طموحات تركيا في شرق المتوسط.
وكانت إسرائيل تريد الاستثمار في هذا التجميع لدول تقع على حوض المتوسط لصالح شق قناة يربط إسرائيل باليونان ليتم ضخ الغاز الإسرائيلي عبره إلى أوروبا؛ ولكن في العام ٢٠٢٠ أبرمت أنقرة مع حكومة طرابلس الغرب الليبية اتفاق رسم حدود المناطق البحرية الخالصة لكل من تركيا وليبيا؛ وكان من نتائج هذه الخطوة أنها قطعت الطريق الذي يمر به قناة إسرائيل اليونان.
هذا التطور أدى إلى نشوء أزمة بين تركيا وإسرائيل بخصوص مصالحهما في شرق المتوسط؛ ومن جهة أخرى برزت لدى إسرائيل بعد ٧ أكتوبر أزمة صامتة مع مصر التي بدأت تتراجع عن علاقاتها مع إسرائيل ذات الصلة بميدان شرق المتوسط؛ ولكن الهاجس الأهم الذي برز من وجهة نظر تل أبيب هو التطور الذي طرأ على ترسانة مصر العسكرية بفعل التسليح الفرنسي لها؛ أما الهاجس الأكبر الذي برز من وجهة نظر واشنطن هو وجود تقدير موقف في البنتاغون يخشى من أن الصين قد تحاول الدخول إلى منطقة شرق المتوسط من خلال النافذة المصرية. فالقاهرة قد يدفعها تمادي التغول الإسرائيلي إلى طلب التسلح من الصين فيما بكين لن يكون لديها أي مانع بقلب طاولة المعادلات في شرق المتوسط الحيوي تجارياً بالنسبة إليها..
تملك الصين طائرات جي ٣٥ التي تعادل اف ٣٥ الأميركية؛ وحصول مصر على جي ٣٥ يوفر لها إسهاماً عسكرياً استراتيجياً.
بالمقابل يلاحظ زيادة اهتمام واشنطن باثبات حضور عسكري لها في شرق المتوسط؛ فمناورة أسد الصحراء التي تجري سنوياً في المغرب بمشاركة ٢٢ دولة بينها الولايات المتحدة الأميركية تم هذا العام إضافة دولة تونس للمناورة؛ وهذا يعني أن واشنطن تريد أن يمتد ميدان المناورة ليشمل منطقة شرق المتوسط. أضف أن سفينة عسكرية أميركية زارت على غير العادة سواحل ليبيا؛ وتم إعطاء تفسير لهذه الخطوة يفيد بأن أميركا لم تمانع بأن تطرد روسيا فرنسا من ليبيا ولكنها لا تريد أن يعود النفوذ الروسي في ليبيا إلى المراحل السابقة أيام صداقة القذافي والاتحاد السوفياتي.
وثمة عامل يتوقع أن يكون حضوره نشط خلال المقبل من أيام شرق المتوسط وهو موقع اليوم الثاني لغزة ليس داخل مشهد حل القضية الفلسطينية بل داخل مشهد إعادة ترتيب منطقة دول شرق المتوسط، وخاصة بضمنها دول المشرق العربي.
لا شك أن استعار حرب الهويات الدينية والمذهبية المرشح له أن يستعر إقليمياً انطلاقاً من سوريا وعالمياً انطلاقاً من جنوب آسيا (كشمير)، سيهدد بحصول يالطا جديدة تعيد رسم الجغرافيا السياسية داخل دول حوض المتوسط؛ سواء في ليبيا أو في مناطق فلسطين المحتلة أو في سوريا، الخ.. ولا يمكن للبنان أن يكون بمنآى عن هذه المتغيرات والتغيرات المحمولة على أجنحة عواصف صاخبة..