كلمة من القلب لصديق العمر الدكتور عماد عجمي في ذكرى رحيله الأربعين
رحيل عماد … صديق العمر وظلّ الروح
رحل من كان نبض القلب حين تضيق الحياة، والسند حين تنكسر الخواطر.
لم يكن رفيق درب فحسب، بل كان أخًا بحضور لا يغيب، وبصمة لا تُمحى.
ليس من السهل أن أكتب عنك بصيغة الغائب، يا من كنت الحاضر في كل تفاصيل حياتي… في الهمس والضحك، في الحلم والتعب، في الطريق الطويل الذي عبرناه معاً على مدى عقود.
غادرتنا بصمت، وتركت وجعاً لا يشبه الأوجاع، وفراغاً لا يُملأ، وذكريات تقاوم النسيان.
رحلت فجأة، بسكتة قلبية، في طوكيو البعيدة. في الغربة التي تقاسمنا صقيعها ومعاناتها في باريس.
هناك في اليابان، حيث لا حضن قريب، ولا وداع من حبيب.
كأنك آثرت أن توفّر علينا ألم الوداع والرحيل.
ما أقسى الغربة حين تتحول قبرًا. وما أقسى القدر حين يسرقك منّا بلا تمهيد.
رحيلك المفاجئ جعلني أستعيدك، في ضحكتك، في مواقفك، في لطفك وكياستك وأخلاقك، في صوتك الدافئ حين تقول: “ما يهمك… أنا حدّك”.
كنت الأخ الذي لم تلده أمي، والبيت في الغربة، والكتف في الشدائد.
ترجّلت عن صهوة جوادك بهدوء وصمتٍ، وتركْتَ في قلوبنا غصّةً مؤلمة.
كيف للمكان أن يحلو دونك؟
وكيف للضحكات أن تُطلق دونك؟
كنتَ اللون حين تبهت الأيام.
ويا صديقي، هل تراك مُجيب؟ أما ترى دمعي الغزيرَ يسيبُ؟
رحلتَ والأيّامُ بعدك باكياتٌ وكلّ دربٍ كنتَ فيه كئيبُ
عرفتك في الجامعة، حيث كنا نلهث معاً بين المحاضرات والاستعداد للإمتحانات، في بيتنا أو فوق “سطيحة” منزلكم، وكانت والدتك الراحلة تكرّمنا بكوب لبن بالنعناع والخيار والثلج لتطفئ حرّ الصيف.
وفي بدايات الحرب، كنّا، طلاب السنة الرابعة، نصدر جريدة “اليوم” لأستاذنا وفيق الطيبي. كنت عضدًا لي حين عُيّنت رئيسًا لتحريرها، وكنتَ أول من واسى حين فقدنا زميلنا أنطوان واكيم، فخطَّ قلمُك في الصفحة الأولى رثاءً لا يُنسى.
صورة العمود والصحيفة الجامعية “الاعلام”.
اصطحبتني ذات يوم إلى أرنون، لنضع الزهرَ على ضريح والدك…
واليوم، ما أصعب أن أضع لك الزهر من بعيد، وقد اخترتَ أن تبقى في اليابان، في أرض الغربة، عاشق الورد الذي صار رماده رمزاً للغياب.
من لم يرافقك إلى سوق اللحم المميز في النبطية، لم يعرف عماداً كما عرفته… كان كل شيء له ذوقاً: حديثه، اختياراته، حضوره، وحتى صمته.
كنتَ عاشقًا للحياة، للصحافة، للأناقة، للناس.
أنيق الفكر والمظهر، لَبِقًا بالفطرة، إعلاميًا بالفطرة أيضًا، تُجيد اختيار الصورة والعنوان والكلمة، تصيغ الفكرة كأنك تنحتها من وجدانك.
في “الهديل”، في “Linkmag”، في “اليوم”، كنتَ دومًا في الصفوف الأمامية، بهدوئك، بمهنيتك، بأناقتك التي لا تشبه إلاّك.
كنتَ تُحبّ الحياة، والسهر، والموسيقى، والناس.
سياسيًا، لم تنتمِ الى حزب، بل كان وطنك هو الحزب، والعروبة هي الروح.
كنتَ تكره الاصطفافات وتحبّ الناس بصدق… وها هو حب الناس لك، يشهد الآن على صدقك.
كم من مرة ضحكنا حتى البكاء… وها نحن اليوم نبكي حتى تنفطر القلوب، ولا نجد للضحك سبيلاً.
كنت “مالئ الدنيا وشاغل الناس”، ثم رحلت بصمت… فيا له من تناقض موجع!
نمْ قرير العين، يا من سكَنت القلب قبل أن تسكن الثرى…
نمْ، ففي القلب لك دعاءٌ لا يغيب، وذكرى لا تموت.
يا من كان رفيق الدرب والذاكرة، كنت مرآتي التي لا تجامل، وصوت ضميري حين يسكت كل صوت.
تركتَ فراغًا لا يُملأ، وحزنًا لا يُشفى، وذكرى لا تموت.
لم يكن وداعك في الحسبان، ولا الفقد في الخيال…
خلتك خالدًا، كرمز، كفكرة، كحضور لا يشيخ.
رحلت يا عماد، وتركت وراءك ذكرياتٍ أثقل من أن تُحمل.
لكننا نرضى بقضاء الله وقدره، ونرفع أكفّنا بالدعاء:
اللهم ارحمه واغفر له، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأنر غربته بنور وجهك الكريم.
اللهم أجزه عنّا خير ما يجازى به الأخ عن أخيه، والصديق عن صديقه، والوفيّ عن من أحبّه بصدق.
إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
د. غدير سعادة