خاص الهديل…
![]()
في لبنان، لا تُقاس الأزمات بالأيام، بل بالأوزان السياسية الثقيلة التي تتراكم فوق صدر الدولة حتى تكاد تختنق؛ فهو – لبنان – لم يكن يوماً بلداً “مرتاح البال” في تاريخه الحديث، لكنه اليوم يترنّح بين معادلتين قاتلتين: دولة تحاول أن تقوم من الرماد، ودويلة ترفض أن تحترق.. أو حتى أن تنصهر.
رئيس الحكومة نواف سلام، الذي دخل السرايا مثقلاً بآمال الناس، لم يخفِ رغبته في استعادة القرار المسلوب؛ فقد أعلنها من أول الطريق: لا نهوض من دون سيادة، ولا دولة مع سلاحٍ خارج شرعيتها.. وبنبرةٍ دبلوماسية ناعمة، وجّه رسائل واضحة، مفادها أن الجيش يجب أن يكون المرجع، لا البندقية المتنقلة على الحدود.
الحزب لم ينتظر كثيراً قبل أن يردّ: السلاح باقٍ؛ فالشروط لإزالته لن تتحقّق غداً ولا بعد عقد. احتلال اسرائيل للنقاط الخمس وبقع من الجنوب لم ينتهِ، والعدوان مستمر، والمقاومة بنظر الحزب “واجب وطني”. وبذلك، تعود الحلقة المفرغة إلى الدوران: الدولة تنتظر، والحزب يماطل، والبلد ينهار.
الوساطة الأميركية، التي حملها آموس هوكستين إلى بيروت، بدت وكأنها طوق نجاة. انسحاب إسرائيلي جزئي مقابل التزامات لبنانية بنزع السلاح الثقيل وتمكين الجيش من الجنوب.. أما الورقة التي أعدّتها الحكومة كانت متزنة، طموحة، وتتضمن نوايا سيادية حقيقية؛ لكنها، كأي مشروع إصلاحي في لبنان، اصطدمت بجدار الممانعة.
وعليه يعرف “حزب الله” تماماً أن السلاح بنظره ليس مجرد أداة أمنية، بل هو صمّام النفوذ السياسي.. يساوم به على التعيينات، على السياسة الخارجية، على العلاقة مع العرب، وحتى على تفاصيل الردود الرسمية. لا يريد تسوية تنهي سلاحه، بل تسوية تحفظ له موقعه. وعليه أيضاً، فهو يفاوض بشروط مستحيلة، ويُفرمل كل ما لا يُناسب أجندته، حتى لو كانت عجلة الدولة بأكملها.
المشكلة اليوم ليست في الاختلاف حول رؤية سياسية أو اقتصادية، المشكلة في أن لبنان يفتقد سلطة تنفيذية حقيقية تمسك بكل مفاصل القرار. فمتى كانت آخر مرة اتخذت فيها الحكومة قراراً سياديا كاملاً؟ ومتى كانت وزارة الدفاع آخر من يعلم بقرار عسكري على الحدود؟ هذا هو لبّ الأزمة: ازدواجية القرار، وشلل المؤسسات، وانفصام الدولة عن سلطتها.
وفي صخب هذا المشاهد، يقف المواطن اللبناني كمن يُشاهد فيلماً يتكرر بلا نهاية. يعرف الحبكة ويحفظ النهايات، لكنه لا يملك حتى تذكرة الخروج من القاعة بين رغبة الدولة في النهوض، وتعطيل الحزب المستمر، يضيع الأمل، وتُفقد الثقة، ويتآكل ما تبقى من استقرار.
ويبقى السؤال الأهم: إلى متى سيبقى لبنان رهينة توازن هش لا يحميه من الانهيار؟ وهل يستطيع “حزب الله” أن يراجع موقعه بعين وطنية قبل أن يصبح عبئاً حتى على جمهوره؟

