خاص الهديل…

قهرمان مصطفى
لم تكن سوريا يوماً بعيدة عن الوجدان العربي، رغم السنوات الطويلة التي عصفت بها، وعزلتها عن محيطها الإقليمي والدولي. لكن ها هي اليوم، وبعد تحولات سياسية وأمنية لافتة، تبدأ مرحلة جديدة، تتفتح فيها الأبواب مجدداً أمام مشروع النهوض والعودة إلى الخريطة الاقتصادية العربية والدولية. وما لفت الأنظار مؤخراً، أن أول من بادر إلى تلك الأبواب لم يكن سوى دول الخليج، التي طالما عُرفت برؤيتها الاستباقية، وحسّها الاستثماري المتقد، وقدرتها على التقاط اللحظات المفصلية.
اليوم، يقرأ الخليجيون المشهد السوري بعيون اقتصادية مستقبلية؛ لا من باب المجاملة، ولا لمجرد تسجيل الحضور، بل من زاوية نادرة: سوريا باعتبارها أرضاً بكراً، تحمل فرصاً غير مسبوقة، في بلد لم يُستنزف استثمارياً كما حدث في غيره، رغم تاريخه العريق وموارده البشرية والطبيعية الواعدة. إنها فرصة لتدوير العجلة من جديد، بآليات مختلفة، وعقلية جديدة ترى في الاستثمار وسيلة لإعادة البناء وليس مجرد تجارة.
المملكة العربية السعودية، على وجه الخصوص، أطلقت خلال الأيام الأخيرة مؤشرات واضحة على هذا التحول، عبر تصريحات رسمية تعكس قناعة بأن الوقت قد حان للدخول في العمق السوري، اقتصادياً وتنموياً. إنها رسالة سياسية واقتصادية في آن: سوريا لم تعد فقط “منطقة ما بعد الحرب”، بل صارت مشروعاً قابلاً للنهضة.
لكن المبادرة الخليجية ليست مجرّد استثمار في الإسمنت أو الطاقة أو الزراعة، بل في استعادة التوازن الإقليمي، وبناء نموذج من التعافي الذي لا يكون رهينة المساعدات فقط، بل مدفوعاً بشراكات حقيقية؛ فكل دعم خليجي يُقدّم اليوم إلى سوريا هو أيضاً دعم للمنطقة بأسرها، لأنه يُقلّص مساحات الفراغ، ويحدّ من احتمالات الفوضى، ويُعيد البلد الذي شغل موقع القلب العربي إلى مكانه الطبيعي.
ولعل أبرز ما يُميز هذا التوجّه أنه لا يُبنى على عاطفة فقط، بل على قراءة دقيقة للواقع. فالمعطيات الاقتصادية على الأرض السورية بدأت تتبدل، والاستقرار الأمني النسبي في مناطق واسعة يتيح للمستثمر أن يُفكر بجدية، ويبحث عن فرص واعدة في مجالات لم تُكتشف بعد. من السياحة إلى الطاقة، ومن الصناعات التحويلية إلى البنية التحتية، تتسع رقعة الإمكانيات بقدر ما تتسع رغبة الخليج في البناء.
وبينما تبدأ دول الخليج بإعادة نسج العلاقات الاقتصادية مع سوريا، فإن الرسالة الأهم قد تكون موجهة للسوريين أنفسهم: أنتم لستم وحدكم. العودة إلى الحضن العربي ليست حلماً، بل مساراً بدأ، ويحتاج فقط إلى المثابرة والخطوات الصحيحة. فالاستثمار ليس فقط في المال، بل في الثقة، وفي الأمل، وفي القدرة على تحويل الرماد إلى فرصة.

