خاص الهديل….
بقلم: ناصر شرارة
صدرت أمس وثيقة الأمن القومي الأميركي التي ترتب أولويات واشنطن في المرحلة الراهنة. وتعكس الوثيقة أفكار الرئيس دونالد ترامب ورؤيته لأميركا أولاً وللعالم من حولها.
بخصوص الشرق الأوسط تسجل الوثيقة تراجع الاهتمام الأميركي به؛ وذلك بعد أن كان طوال الفترة الماضية يشكل أولوية في الاهتمام الأميركي. ويشكل تراجع حاجة الولايات المتحدة للحصول على النفط بعد تعاظم انتاجها من النفط الصخري وغيره، السبب الأساس لتراجع أهمية الشرق الأوسط أميركياً. أضف لذلك أن إدارة ترامب ترى أن الشرق الأوسط لم يعد يشكل لأميركا مصدر تهديدات كبيرة؛ بعد ضرب النفوذ الإيراني فيه وإضعاف “حلفاء إيران الصغار “.
ويستفاد من الوثيقة أن ترامب لن ينسحب عسكرياً من المنطقة بل سيعيد تموضعه فيها من جهة، وأيضاً لن يسعى من جهة ثانية للهيمنة عليها، ولكنه بنفس الوقت لن يسمح لأي طرف آخر بالهيمنة عليها.. ويفهم من الوثيقة أيضاً أن استراتيجية ترامب تعتبر الشرق الأوسط ساحة استثمارات وشراكات تجارية خالصة للولايات المتحدة الأميركية؛ وبنفس الوقت منطقة تفاهمات. وتعترف الوثيقة ضمنيا بأن الولايات المتحدة الأميركية ليس لديها حل للقضية الفلسطينية، ولكن الوثيقة تعتبر أن ترامب من خلال نجاحه بالتفاوص على وقف النار في غزة وإطلاق الأسرى، يمكن أن يكون بذلك قد فتح الباب أمام استقرار طويل الأمد في الشرق الأوسط؛ وما سيعزز هذا الاستقرار هو حصول اتفاقيات إبراهيمية.
يلاحظ أن الوثيقة التي ترسم أولويات أميركا في العالم وفق منظور ترامب، لا تذكر ولو بسطر واحد القضية الفلسطينية كعامل مهم في تحقيق أمن مستدام في المنطقة؛ ولا تلتفت لأهمية عامل القضية الفلسطينية لا من ناحية قانونية ولا أخلاقية ولا جيوسياسية، الخ..؛ بل تستمر الوثيقة في اعتبار أن أهم عامل يحقق استقرار المنطقة هو عامل الحفاظ على أمن إسرائيل.
من وجهة نظر موضوعية فإن الوثيقة، وبخاصة بموضوع نظرتها للشرق الأوسط، تحمل تناقضات كبيرة؛ فهي أولاً تعتبر الشرق الأوسط منطقة استثمارات خالصة للولايات المتحدة؛ وهي ثانياً تعتبره منطقة تفاهمات؛ وثالثاً تعتبره منطقة نزاعات متلاحقة، ورابعاً تعتبر أن إدارة القضية الفلسطينية هي أزمة معقدة والحل ليس بإقامة دولة فلسطينية بل بتوقيع اتفاقيات إبراهيمية تؤدي لاستقرار طويل الأمد(!!)، الخ..
.. غير أن النقطة الهامة التي تمكن المراقب من فهم لماذا أتت كل هذه التناقضات في الوثيقة، تكمن في أمرين إثنين مهمين: الأول هو أن ما ينظر إليه العالم على أنه تناقض في تفكير ترامب أو في الوثيقة، لا ينظر إليه ترامب على هذا النحو؛ بل يعتقد ترامب بحزم، أنه من موقعه كرئيس للولايات المتحدة، يملك “هامش حركة شاسع وكبير” يسمح له أن يمارس تكتيك الصيف والشتاء على سقف واحد؛ وبنظره – أي ترامب – فإن قدرات أميركا الكبيرة تسمح لرئيسها أن يجعل التناقضات منسجمة ومتكاملة، وأن يوظفها في نهاية الأمر في خدمة المصالح العليا لأميركا.
الأمر الثاني هو أن الوثيقة لا تذهب لفكرة أن ترامب سيأمر بانسحاب أميركا من المنطقة بل سيعيد تموضعه قدرات أميركا العسكرية والسياسية في المنطقة؛ وهذا يعني أن واشنطن لا يزال لديها مصالح وأولويات في المنطقة ولكن لا يوجد بين أولوياتها تلك الأولويات التي يعتبرها أصحاب المنطقة أنها أولويات أساسية لتحقيق سلم واستقرار مستدام في الشرق الأوسط، كالقضية الفلسطينية مثلاً.
