بقلم القاضي م. جمال الحلو
لم تُهزّني مغادرةُ قاضٍ لمنصبه كما هزّتني كلماتُ القاضية ساندرا مهتار في نصّها الوداعي. فخلف السطور التي خطّتها لم تكن هناك استقالةٌ عادية، بل شهادةٌ دامغة على واقعٍ يُنهِك العدالة، وقلبٍ قضائيّ نبيل أتعبته التضحيات.
كتبت مهتار نصًّا يشبه مرآةً وُضعت أمام الوطن؛ مرآةً لم تُجَمِّل، ولم تُزيّن، ولم تُخفِ. قالت الحقيقة كما هي: القضاء، قلب الوطن، بات مُتعَبًا… ولو أنصفه الناس لأدركوا أنّ هذا القلب يرهق من يحمله قبل أن يرهق من يراقبه.
لم تستعطف، ولم تثرثر، ولم تُلقِ اللوم. بل مرّت بكلماتها كما مرّت في مسيرتها: ثابتة، هادئة، صلبة، تُكمل الطريق ولو بقدمٍ دامية.
خسارة لا تُعوَّض:
إنّ مغادرة مهتار القضاء بعد ربع قرن من العمل ليست انتقالًا إداريًّا، بل خسارةً لجزء من الهيبة التي كان يمنحها وجودها.
فالقضاة الحقيقيون لا يتركون سيرةَ عملٍ فحسب، بل يتركون أثرًا في الأخلاق العامة، ورصانةً في المعايير، وصورةً لما يجب أن يكون عليه القاضي حين يختار أن يكون ضميرًا قبل أن يكون وظيفة.
ولعلّ أكثر ما لامس الوجدان في نصّها قولها:
«لم أحزم حقائب قبل الرحيل… فأمتعتي في قلبي وفكري ووجداني.»
بهذه الجملة وحدها أسقطت الكثير من الأقنعة التي يلبسها الزمن على وجوه المواقع والمناصب، وذكّرت بأنّ القاضي، قبل كل شيء، إنسانٌ يحمل أمانته في داخله لا في مكتبه.
القاضية التي قاومت الصمت:
كتبت: «عبرت… لا كريشةٍ في مهبّ الريح، بل كغيمةٍ بيضاء… كبذرةٍ حاولوا دفنها… فعبرت.»
وفي هذه العبارات لا يمكن للمرء إلا أن يرى قاضيةً كانت تقاوم محاولات الإقصاء بالصمت، ومحاولات الإحباط بالثبات، ومحاولات الالتفاف على العدالة بالالتزام.
هي لم تقل إنها كانت تُحارِب، لكن كلّ ما بين السطور يؤكّد أنّها كانت في معركةٍ يومية مع الانحراف والضغوط والهشاشة التي تُفقد المؤسسات معناها.
لماذا تُبكينا استقالتها؟
تُبكينا لأنها تُجسّد ما نخشى خسارته:
أن يغادر القضاءَ آخرُ الذين لا يساومون.
أن نبدأ نبحث عن العدالة في وجوهٍ لا تحمل إرث النزاهة، بعد أن غادرت من كانت تعتبر العدل جزءًا من تكوينها لا من وظيفتها.
تُبكينا لأنها خرجت بشجاعةٍ هادئة، بلا ضجيج، بلا تسويات، بلا ادّعاء بطولة… وكأنّ الخروج نفسه فعلُ بطولة.
“رسالة إلى ساندرا مهتار”:
يا قاضيةَ الحقّ،
لم تتركي القضاء، بل تركتِ سؤالًا معلّقًا في الهواء: كيف يُبنى وطنٌ يُرهِق أفضل قضاته؟
لم يغب اسمك عن سجلّ العدالة… ولن يغيب. فثمّة قضاةٌ يمرّون، وثمّة قضاةٌ يبقون؛ وأنتِ من الفئة الثانية، من الفئة التي يُقاس بها الضمير العام لا السنوات.
لقد أبكيتِنا، نعم.
ليس على رحيلك، بل على واقعٍ جعل الرحيل خياركِ الأكثر عقلانيّة.
ومع ذلك، يبقى عزاؤنا الوحيد أنّ خروجك لم يكن هروبًا… بل كان من أقوى أشكال المواجهة.
ساندرا مهتار… القاضية التي أبكتني، لأنها كانت آخرَ برهانٍ على أنّ العدالة ما زالت قادرةً على أن تُنجِب من يؤمن بها حتى النهاية.

