قبل بضعة أسابيع من الذكرى الثانية للانفجار المشؤوم للمرفأ في 4 آب (اغسطس)، والذي اغتال بيروت وناسها، تتوقف الذاكرة في شوارع منطقة الأشرفية، التي تضررت مباشرة من هول هذا الحادث المأسوي…
وأنت تتجول في بعض أزقتها، ينتابك شعور بأن أبنية تراثية عدة تم ترميمها، فيما لا يزال بعضها الآخر “شاهداً” على تداعيات فاجعة 4 آب (أغسطس) 2020.
عندما تمشي في أزقتها محاولاً الاطمئنان إلى حالها، تنساق طوعاً إلى البحث في الماضي، وتحديداً في ما ذكره الشيخ طه الولي عن كلمة الأشرفية وأهمية المنطقة تاريخياً، مشيراً إلى أن “الكلمة عربية في مبناها ومعناها، فهي تعني باللغة المكان العالي، الذي يشرف على ما يليه من الأراضي، التي هي دونه في الارتفاع…”.
ذكر أيضاً أنه “من هنا قال بعض الذين تحدثوا عن هذا الحي من المؤرخين، إنه اكتسب اسمه من طبيعة تكوينه الجيولوجي، ذلك أنه يشتمل على الهضبة العالية، التي تقع إلى الشرق من مدينة بيروت المطلة على المدينة، التي كانت في الماضي محصورة داخل سورها على الجهة المحاذية لشاطئ البحر…”.
وصف هذه الهضبة بأنها “عُرفت في الأيام الغابرة باسم هضبة ديمتري، وقد ذكرها العالم الأثري الفرنسي كميل أنلار في كتابه “الآثار الصليبية في بلاد الشرق”، وقال: “الأشرفية اسم يطلق على الأرض المنبسطة، فوق التلة الصخرية الواقعة في الجهة المقابلة لهضبة مار ديمتري من الجهة الشرقية، وهي الهضبة التي تطل على النهر وتشكل الحي المرتفع في بيروت…”.
حدّد الولي “أن هذا الحي البيروتي عرف باسم الأشرفية منذ حوالى 700 عام، أي في أيام الحروب الصليبية بعدما تم تحرير مدينة بيروت والسواحل الشامية على يد القوات المملوكية الإسلامية”، مشيراً إلى أن “أقدم إشارة إلى هذا الاسم وردت في كتاب “تاريخ بيروت” لمؤلفه صالح بن يحيى، الذي جاء فيه قول المؤلف، وهو يتحدث عن حاكم بيروت عام 1307 الأمير ناصر الدين الحسين – البحتري – لمناسبة زواج هذا الحاكم من امرأته الثانية بنت إسماعيل بن هلال من الأشرفية”.
من البرج… إلى القبضايات
واعتبر أن “جميع النصوص التاريخية، عندما تتحدث عن الأشرفية، وصفتها بأنها من ضواحي بيروت”، مشيراً إلى أن “بعض هذه النصوص، أطلقت على هذا الحي اسم “مزرعة الأشرفية”، ومن هذا القبيل حديث للشاعر الفرنسي الذائع الصيت لامارتين، الذي زار بلادنا عام 1832 وسجل انطباعاته عن هذه البلاد في كتاب “رحلة إلى المشرق”، فقد حل هذا الشاعر خلال إقامته في بيروت عند عائلة تقطن في حي مار مارون، شمال النادي الكاثوليكي القديم، وكان هذا الحي في أيام لامارتين عام 1832، كما قال هو نفسه يقع على مسيرة 12 دقيقة من المدينة – بالنسبة للماشي طبعاً – وعندما تحدث هذا الشاعر السائح عن الوقائع، التي جرت له في 7 أيلول (سبتمبر) من السنة المذكورة، كتب في مذكراته اليومية الكلام الآتي: “صرفت النهار كله أبحث في ضواحي المدينة، أي مار مارون، ومار متر، ومار نقولا، وهو ما يعرف اليوم بالأشرفية، إضافة إلى محلة الناصرة، التي بقرب دير الناصرة، التي أعطى المحلة اسمها، لأجد مسكناً، فتوقفت لإيجاده وهو مؤلف من غرفة واحدة تنام فيها الأسرة كلها، ومن قبو يتناولون فيه الطعام وهو – أي المنزل – بطريق ضيقة تتدلى فيها ألواح الصبير الشائكة ويمرون إليه بقناطر قديمة، وبرج مربع كبير شيده أمير الدروز فخر الدين المعني واتخذه حرس إبراهيم باشا المصري مرقباً…”.
بعد إزالة البرج نهائياً عام 1878 تقريباً، تحدث الولي عن الأشرفية في أيامه التي “لم تعد ضاحية مفصولة عن بيروت”، مشيراً إلى أنه “من الناحية العمرانية لا من الناحية الإدارية، بل من أحيائها الرئيسية، لأنها تعتبر إحدى الدوائر الانتخابية التي يمثلها عدد من النواب النصارى بمختلف طوائفهم المذهبية، ومن بينهم عدد من الأرمن، الذين يشكلون قسماً كبيراً من سكانها…”.
وأسف أنها “لم تعد كذلك مزرعة للزيتون والتوت وغير ذلك من الأشجار المثمرة، وإن كانت لا تزال تحتفظ في جزء منها بحي داخلي ما زال محتفظاً بطابعه الزراعي من الناحية اللغوية فقط”، مشيراً إلى أن هذا الحي هو “كرم الزيتون” ولا تزال فيه بعض كعوب الزيتون حتى اليوم، والتي تذكرنا بماضي الأشرفية يوم كانت تحمل اسم “المزرعة”.
ويلفت الولي إلى أن “الأشرفية لم تعد منتجعاً يلجأ إليه البيروتيون هرباً من حرارة الجو خلال الصيف في مدينتهم، فإن البيروتيين على اختلاف طوائفهم أصبحوا في المصايف الجبلية في لبنان وخارجه، لقضاء هذا الفصل المرهق بحرارته ورطوبة مناخه”، مشيراً إلى أن “الكلام عن الأشرفية لا يمكن أن يبلغ غايته إذا لم يتضمن الإشارة إلى أن هذا الحي مثل البسطة بالنسبة إلى شهرته بفتواته من شيوخ الشباب، الذين عرفوا باسم القبضايات”…