أمس كان يوم البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في الديمان. ليست مسألة بسيطة أن يقابل كلامه بالتصفيق وأن يقف المشاركون في القداس تأييداً له عندما قال في عظته: “وأنتم أيّها المسيئون إلى كرامة اللبنانيّين كفّوا عن قولكم إنّ المساعدات تأتي من العملاء، واذهبوا بالاحرى وإبحثوا في مكان آخر عن العملاء، وأنتم تعلمون أين هم، ومن هم”… بهذه العبارات حسم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة مسألة تركيب ملف اتهام راعي أبرشية حيفا والأراضي المقدسة والنائب البطريركي على أبرشية القدس والأردن المطران موسى الحاج. أكثر من ذلك قال البطريرك إن ما قام به المطران هو ما يجب أن يقوم به وأن يستمر في القيام به. كان البطريرك حاسماً وجازماً في رفض ما سماه الإساءة إلى المطران وإليه وإلى البطريركية عندما قال: “عبثاً تحاول الجماعة الحاكمة والمهيمنة تحويل المدبَّر الذي تعرّضّ له سيادةُ المطران موسى الحاج من اعتداءٍ سياسيٍّ والذي انتهك كرامة الكنيسة التي يمثّلها، إلى مجرّد مسألةٍ قانونيّةٍ هي بدون أساس لتغطيةِ الذَنبِ بالإضافة إلى تفسيرات واجتهادات لا تُقنع ولا تُجدي. وإن كان هناك من قانون يمنع جلب المساعدات الإنسانيّة فليبرزوه لنا.
وأكثر من ذلك أيضاً طالب البطريرك بإعادة ما تمت مصادرته من المطران الذي يقوم بواجب وطني: “ومن غير المقبول أن يخضع أسقف لتوقيف وتفتيش ومساءلة من دون الرجوع إلى مرجعيّته الكنسيّة القانونيّة، وهي البطريركيّة. وبهذا النقص المتعمّد إساءة للبطريركيّة المارونيّة، وتعدٍّ على صلاحيّاتها. نحن نرفض هذه التصرقات البوليسيّة ذات الأبعاد السياسيّة التي لا يجهلها أحد، ونطالب بأن يُعاد إلى سيادة المطران موسى الحاج كلّ ما صودر منه”. ورفع سقف المواجهة من كون القضية مجرد ملف مفبرك إلى قضية وطنية تدخل في صلب عمل الكنيسة المقاومة: “إنَّ البطريركية المارونية صامدةٌ كعادتِها على مواقفِها وستُتابع مسيرتَها مع شعبِها”. بعد هذا الكلام وضع البطريرك الكرة في عهدة رئيس الجمهورية الذي أعطى وعداً بالعمل على معالجة تداعيات توقيف المطران موسى الحاج وحل القضية بالشكل الذي يعيد الحق إلى أصحابه، ويضع حدّاً لهذا التجاوز الخطير لدور البطريركية المارونية والكنيسة لأن أي خنوع لما حصل سيعني حتماً انهيار آخر حصن من حصون الدفاع عن هوية لبنان.
يوم البطريرك في الديمان أمس غاب عنه “التيار الوطني الحر” الذي كشف غيابه بعض خلفيات “الجماعة الحاكمة والمهيمنة” التي تشمل التيار و”حزب الله” معاً. فبدل أن يقف التيار إلى جانب مرجعيته الروحية في قضية بهذا الحجم حاول أن يغطي على عملية توقيف المطران وإهانة البطريرك والبطريركية، وعمد على عكس ذلك إلى هجوم على “القوات اللبنانية” في مقدمة نشرة أخبار محطته التلفزيونية الـ”أو تي في” بينما لجأ “حزب الله” إلى بعض الأسماء والجمعيات لإصدار بيانات تولى توزيعها وفيها تهجم على البطريرك الراعي والكنيسة المارونية في مسألة تتعلق بكيان هذه الطائفة وتاريخها ومستقبلها، وأخذ على عاتقه تأكيد تهمة العمالة على المطران وتعميمها على الطائفة المارونية حتى قبل أن يتهم القضاء مباشرة، ليكشف بذلك هوية من يقف وراء هذه التركيبة وكـأنه يريد أن يصدر حكمه من دون محاكمة في قضية لا اساس لها من الصحة.
ربما لم يخطر في بال البطريرك الراعي أنه سيتعرض لما تعرض له سلفه البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الرمز الكبير الذي كان له الدور الأكبر في معركة الإستقلال الجديد الذي يحاول “حزب الله” إنهاءه وإلغاءه. وهو لذلك خاطب الحشد المتجمع في الديمان قائلاً: “إن البطريرك صفير حي فينا”. كان البطريرك الراعي شاهداً على ما تعرض له البطريرك صفير من إهانة في 5 تشرين الثاني 1989 عندما اقتحم مناصرون للعماد ميشال عون الصرح البطريركي في بكركي بعد انتخاب النائب رينيه معوض رئيساً للجمهورية. تلك الليلة التي روى تفاصيلها البطريرك صفير في مذكراته قال إنه صلى أمام صورة يسوع المصلوب لأنه كان يعتقد أنه سيلاقي وجهه في السماء. وهو الذي ترك المقر البطريركي في بكركي لينتقل قبل الفجر مع المطران بشارة الراعي إلى الديمان. وعندما سئل العماد ميشال عون عن هذا الأمر في اليوم التالي قال إن البطريرك اختار طريق المنفى. وعلى رغم أنه على أيام البطريرك صفير ومن قبله لم يتعرض أي مطران لما تعرض له المطران موسى الحاج ولا تم تفتيش أي أسقف على أبرشية القدس وحيفا والأراضي المقدسة ولا تمت فبركة تهمة من هذا النوع، فإن ذلك يحصل اليوم على عهد الرئيس ميشال عون. فهل سيكون له دور في إسقاط هذه الصورة عن عهده بإعادة الإعتبار إلى القانون والكنيسة والبطريرك والبطريركية ومحو هذه الإهانة؟ أم أنه كما فعل التيار سيغطيها ويثبت أنه جزء من هذه الجماعة الحاكمة والمهيمنة؟
وليس بعيداً عن جو الديمان كان موقف راعي أبرشية بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة الذي لاقى البطريرك الراعي في قراءته لأبعاد ما حصل، معتبراً ان “ما جرى مع أخينا المطران غير مقبول وينذر بوجود نهج جديد في التعامل الأمني والقضائي يؤدي إلى تداعيات خطيرة على مستوى الوطن. وهذا أمر خطير ومرفوض ونأمل عدم تكراره”، وأضاف: “إذا كان توقيفه رسالةً إلى الكنيسة من أجل إسكات صوتها، فإنّ الكنيسة لا تخضع للترهيب والكيدية، ولا تخاف إلا ربّها، ولا تنفّذ إلا تعاليمه، ولا تسمع إلا صوت الضمير والواجب، وواجبُها احترام الإنسان ومحبّته، والحفاظ على كرامته والدفاع عن حريته. هكذا كانت الكنيسة منذ تأسيسها وهكذا ستبقى بنعمة ربها وسيدها يسوع المسيح”.
المصدر:نداء الوطن