استوقفتني مقالة خطها صديقي العزيز دكتور عبدالخالق عبدالله لموقع CNN وأعاد “النهار العربي”، نُشرها بتاريخ 12 أيلول (سبتمبر) 2022 تحت عنوان “من هو الإماراتي؟ وما الثابت والمتحول في الهوية الوطنية”، تطرّق فيها للحوار الساخن الذي شهدته مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرًا في هذا الشأن.
لعلّ خلط عدة أمور بعضها ببعض تسبّب في إشعال الجدل، إذ لا نقاش في المواطنة بتاتًا، فالإماراتي دستوريًا هو كل من اكتسب جنسية الدولة بصرف النظر عن طريقة الاكتساب أو خلفيته الإثنية أو دينه أو طائفته، والإماراتيون أمام القانون في الحقوق والواجبات سواء، ولا أفضلية لمواطن إماراتي على آخر.
لكن الحديث عن الهوية الوطنية الإماراتية قد يكون أكثر تشعبًا، إذ إن مفهوم الهوية الوطنية جديد نسبيًا كونه مرتبط بحقبة تأسيس الدول، حيث إنه ما زال محل بحث من قبل المختصين ونظرياته لها مشارب عدة، لكن يمكن اختزالها في تعريف عالم النفس والأستاذ الجامعي الراحل في جامعة هارفارد هربرت كيلمان في أنها “ظاهرة جماعية يمكن لها أن تنشأ كنتيجة مباشرة لوجود عدة قواسم مشتركة في حياة الناس اليومية: الرموز الوطنية واللغة وتاريخ الأمة والوعي القومي والإرث الثقافي”.
أو يمكن تبسيطها كما عَرَّفها أستاذ العلوم السياسية الراحل في جامعة هارفارد روبرت إيمرسون على أن “الهوية الوطنية عبارة عن مجموعة من الناس يشعرون بأنهم أمة”، ومحليًا تعرّفها وزارة الثقافة والشباب الإماراتية على الموقع الرسمي للحكومة الاتحادية بوصفها “نظامًا من القيم الاجتماعية والأخلاقية المرتبطة بأسلوب حياة الناس في الماضي والحاضر والمستقبل”.
ولا يمكن تشخيص الهوية الوطنية الإماراتية من دون تفحص الهوية السيادية للدولة أولًا، ذلك كون أن المصطلحين متبادلان بموجب القانون الدولي.. وكون أن هوية الفرد تنبثق من هوية القطر الذي ينتمي له، وفي هذا نصت المادة 7 من الدستور الإماراتي على أن “الإسلام هو الدين الرسمي للاتحاد، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع فيه، ولغة الاتحاد الرسمية هي اللغة العربية”، مما لا يلغي مدنية الدولة التي تجلّت في المادة 25 من دستورها التي رسمت أن “جميع الأفراد لدى القانون سواء، ولا تمييز بين مواطني الاتحاد بسبب الأصل أو الموطن أو العقيدة الدينية أو المركز الاجتماعي”.
وتأتي أهمية البعدين الديني والقبلي العربي لتكوين الهوية السيادية للدولة في أنهما ركيزتان أساسيتان لمنظومة الحكم فيها، هي مجموعة من القبائل تجمعت منذ مئات السنين في 7 إمارات مختلفة لقواسم مشتركة فيما بينها، وارتضت 7 عوائل حاكمة فيها، وأضفى شرعية لذلك مبدأ ولاية الأمر الذي يستند بالإجماع إلى موروث إسلامي بحت، وفي 2 كانون الأول (ديسمبر) 1971 انصهرت تلك الهويات السبع في هوية واحدة موحدة بناء على قرار حكيم من “ولاة الأمر”.. وشهدنا ولادة الهوية السيادية الإماراتية.
تلك الهوية السيادية انبثقت منها هوية وطنية إماراتية اتحدت في الدين واللسان والتوجه السياسي والعادات والتقاليد، هوية بنت على موروثها وأسست لمجتمع منفتح يتقبّل الآخر بكل اختلافه من دون أن تتجرد من ركائزها وعراقتها وأصالتها، هوية استوعبت نازحين من مناطق مجاورة انصهروا فيها وأضافوا إليها، ومن خلال ذلك تمكّن المجتمع الإماراتي بالرغم من كونه أقلية في أن يخلق بيئة جاذبة متمسكة بعراقتها وواثقة من إرثها ومتقبلة لكل أطياف المقيمين والزائرين باختلافاتها.
واليوم، نشهد بعض الأصوات التي تربط قيم الانفتاح في الهوية الإماراتية مع وجوب انسلاخها من ماضيها، وتدعو لتفريغها من بعض ركائزها وعاداتها وتقاليدها التي قامت عليها بدواعي الحداثة والمدنية، وذلك طرح يشوبه الخطأ في الاستدلال.. وفيه خطورة قد لا نستشعرها اليوم.
فمن يرصد بإنصاف تطور المجتمع الإماراتي خلال العقود الخمسة الماضية يتبين له أنه لم يكن منغلقًا البتة، بل هو خالف في رحلته ما ذهب إليه مؤسس علم وطنية الأمم أستاذ السياسة الأمريكي الراحل ووكر كونور في أن الهوية الوطنية شيء ثابت، حيث تطورت الهوية الوطنية الإماراتية في بعض عاداتها وتقاليدها لتتماهى مع مدنية الدولة وحداثتها، وحافظت على سماحة ووسطية دينها آخذة بالاعتبار أن قياس التدين أمر شخصي خاص لا شأن للدولة به.
أما عن خطورة الطرح، فالهوية الوطنية الإماراتية كانت ضامنًا لاستقرار الدولة منذ اليوم الأول لنشأتها، وتجريدها من بعديها الديني والقبلي العربي فيه تقويض لمفهوم ولاية الأمر في المستقبل، وليس أفضل من استعراض التجربة البريطانية – وإن كانت ملكية دستورية – لتبيان ذلك، إذ عندما فُرِّغَت الهوية الوطنية البريطانية من بعض مكوناتها خلال العقود القليلة الماضية تغيرت نظرة الجيل الشاب إلى الملكية، حيث بيّن استطلاع أجرته مؤسسة “يوغوف” في سبتمبر 2022 أن 84٪ من البريطانيين ممن هم في سن الـ65 فما فوق يؤيدون الملكية، لكن نسبة التأييد تهوي إلى 40٪ في شريحة من هم في عمر الـ18 إلى 24 سنة!
الخلاصة: الهوية الوطنية منبع استقرار للدول، وهي على محك في أقطار عدة نظرًا لموجة العولمة التي اعترت العالم في العقدين الأخيرين، لكن تبقى هناك خصوصية للتحديات التي قد تشهدها دولة ما مقارنة بأخرى نظرًا لاختلاف العوامل، والإمارات ليست منعزلة عن العالم.. بل هي في قلبه، الهوية الوطنية الإماراتية ستشهد حتمًا اختبارات ضغط عدة، حينها يجدر بنا أن نكون حذرين ونحن نستشرف نتيجة أفعالنا وأقوالنا وقراراتنا ليس علينا فقط.. إنما على مستقبلنا وأجيالنا القادمة.
المصدر:النهار