ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد قراءة الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “ليس سهلا أن نرضي الله دون أن نعمل، خصوصا عندما تواجهنا التجارب والمحن. لا يمكننا أن نهرب ونختبئ وننتظر الخلاص، بل علينا أن نجاهد لنكسب الإكليل. لذا، علينا أن نشكر الله على كل ما يحدث لنا، لأننا بواسطته نصل إلى الملكوت السماوي إذا عرفنا كيف نواجه. في إنجيل اليوم، لولا أن الرسول بطرس فشل في اصطياد السمك ليلا، لما نجح في النهار، على حسب ما يقول أحد الآباء القديسين، ولما أعطي بركة المسيح إمتلأت الشباك حتى تخرقت. فالفشل أوصل إلى النجاح، وحيث توقفت القوى البشرية حلت بركة المسيح. بين فشل الليل ونجاح النهار تمت أحداث تظهر كيف يصبح غير المستطاع ممكنا، وكيف يصبح العمل العقيم كثير الثمر”.
أضاف: “عرف سمعان بطرس المسيح عن طريق أخيه أندراوس، كما من خلال شفاء حماته. رأى الرب يسوع يشفي المرضى ويخرج الشياطين، لذلك عندما طلب منه المسيح أن يدنو بالسفينة إلى الشاطئ ليكلم الجموع، أطاع حالا. إن تعب الليل والفشل في العمل لم يعيقا استعداده لطاعة الكلمة وخدمتها، حتى إنه جعل أداة عمله الفاشل منبرا للمسيح. هنا يكمن مصدر نجاح النهار، وصيد السمك الوافر. فلو أردنا أن نشير إلى بعض الصفات السامية في تصرف بطرس، لاستطعنا أن نذكر اهتمامه بشخص المسيح، وحسن نيته لسماع كلمته، والطاعة لوصيته. إذا، جمع بطرس معلومات كافية عن شخص المسيح سواء من الآخرين أو من خبرته الشخصية. إنشغل بمجيئه ورغب في الإرتباط به. نستنتج أنه حوى في داخله معاناة جعلته قادرا على إدراك الأمور بشكل صحيح. كان إحساسه الداخلي بالأمور طاهرا، فلم يغرق في الكماليات. حفظ في داخله العطش إلى الله، وبدا هذا العطش أقوى من التعب الجسدي، ومن الفشل في عمله. لقد احتل شخص المسيح مركز حياته”.
وتابع: “كثيرون من المسيحيين اليوم ليست لديهم أشواق روحية تحركهم، ولا يلهبهم التفتيش عن شخص المسيح، بل يعيشون حياة مسيحية عادية. يتممون واجباتهم الدينية بهدف إسكات ضمائرهم، ولكي يتسنى لهم الانشغال بقضايا أخرى يحسبونها جوهرية. هكذا، يبقى البشر في الخطيئة، ساترين إياها بقناع ديني، إذ لا يمكن لأحد أن ينعتق من الخطيئة إلا بتنمية العلاقة الشخصية مع المسيح. الإهتمام بشخص المسيح سر يتحقق في قلب الإنسان، ويمنحه قوة الله التي تتعلق أيضا بتوجهات شخصية الإنسان، وباختياراته الحرة. ارتبط الرسول بطرس بالمسيح لأنه وجد في شخصه ينبوع الحياة. هذه الحياة المعبر عنها بالكلمة جددت كيانه. ذات مرة، عندما ابتعد كثيرون من التلاميذ عن المسيح، إتجه نحو الإثني عشر وسألهم: «ألعلكم أنتم أيضا تريدون أن تمضوا؟” فأجابه بطرس: «يا رب، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك؟”.
وقال: “اختبر بطرس في أقوال المسيح الإحساس بالحياة الأبدية، لذلك كان عطشه إلى الله عطشا إلى سماع كلمته. هذا العطش دليل الصحة الروحية. يقول القديس غريغوريوس النيصصي: «كما أن الشهية دليل صحة الجسد، كذلك الرغبة في سماع الأقوال الروحية دليل صحة النفس». الأقوال الروحية تغذي القلب ولا تدعه يموت. ويقول القديس باسيليوس الكبير: «كن سامعا للمعاني الصالحة، فحفظها يصون القلب». على المعاني أن تصير مادة ينشغل بها الذهن، ليس لكي يحللها وينسقها، بل ليتمثلها ويسلك بموجبها. من البديهي أن عدم الإستعداد لسماع المعاني الصالحة هو دليل مرض داخلي، وهو من العوارض المشيرة إلى موت القلب. طبعا، يمكن أن يأتي عدم الإستعداد من أسباب عديدة، مثل اليأس الذي يجربنا أحيانا، أو التلهي بالأمور السطحية الزائلة. بعدما أنهى المسيح كلامه من على متن سفينة بطرس، طلب منه أن يبتعد إلى العمق لإلقاء الشباك من أجل الصيد. أراد المسيح أن ترمى الشباك في المياه العميقة، الأمر الذي يتعارض مع خبرة بطرس في مهنته. لكن الكلمة التي سمعها من المسيح، والعجائب التي رآها، أقنعته ألا يعتمد على خبرته البشرية. أطاع الأمر وتخطى نفسه قائلا: «قد تعبنا الليل كله ولم نصطد شيئا، لكن بكلمتك ألقي الشبكة» (لو 5: 5). فأتت البركة وأعطت الطاعة ثمارها، وكانت هذه الطاعة نتيجة الإيمان لا الإكراه، وأظهرت أن غير المستطاع عند الناس ممكن عند الله. هكذا، تختلف الطاعة التي فيها محبة وحرية عن النظام الذي فيه فرض وإجبار. الإنسان يطيع الذي يحبه حقا بحرية. الطاعة في الكنيسة أسلوب علاجي إذ يطيع المؤمن من يقدر أن يشفيه. طاعته اختيار حر يرتبط بمعرفة المرض والرغبة في إيجاد الطبيب”.
أضاف: “الفشل في بلدنا لا يؤدي إلا إلى مزيد من الفشل. الناجحون غادروا البلد، باحثين عن فرص للهرب من الفساد والإنهيار، وتثمير مواهبهم في أماكن تحترم قدراتهم. ما وصلنا إليه في لبنان سببه أن لا أحد يتعلم من الفشل أو ممن فشلوا. والدليل أن لا أحد يحاول معالجة مكامن الخطأ وبؤر الفشل. فشل معالجة أزمة الكهرباء المستعصية على اللبنانيين وحدهم، وفشل معالجة المشاكل المالية والإقتصادية، وتدهور الظروف المعيشية، ومشاكل الطرقات والسلامة المرورية، وبطء تنفيذ الإصلاحات الضرورية، ومكافحة الهدر والفساد، ووضع خطة مالية تضمن إرجاع أموال المواطنين، هذا عدا عن المشكلة الأهم: مشكلة تأليف حكومة تتولى إخراج البلد مما هو فيه، وانتخاب رئيس للجمهورية في المهلة المحددة في الدستور. مسؤولونا لا يضعون كلمة الله أمامهم، ولا يستنيرون بهديها، بل يتبعون أناهم ومصالحهم، والمؤسف أن جزءا كبيرا من الشعب لا يزال يهلل لهم، ويأمل منهم خيرا. على المسؤولين، إن كانوا حقا مسؤولين، أن يصرخوا مع الرسول بطرس: يا رب، قد تعبنا طوال الليل ولم نصطد شيئا. عليهم أن يلقوا همهم على الرب وهو ينير طرقهم ويبعد الشر عن الشعب بواسطتهم، إن تبعوا وصاياه. التأخير والتردد وعدم اتخاذ القرارات الضرورية في الوقت المناسب لا يحصد منها الشعب إلا الآلام، فصبوا زيت الرأفة على المواطنين الذين أثخنوا جراحا وذلا. نحن بحاجة إلى الشجاعة من أجل تخطي الأنا وإيجاد حل جذري، وإلى قرار بانتخاب رئيس يلتف حوله الجميع لإخراج لبنان من الكابوس، والعمل على حفظ سيادته واستقلاله واستقراره، محتكمين إلى الدستور ومطبقين القوانين ولو على حساب مصالحهم وكبريائهم”.
وختم: “دعوتنا اليوم أن نلقي شباكنا أينما ألهمنا الرب ذلك. علينا أن نسكت أهواءنا ومصالحنا، كما فعل بطرس، وأن نتبع وصايا الرب، وحينئذ تكون ثمارنا غزيرة”.