كتبت راغدة درغام..
انتقلت الحرب الأوكرانية الى مرحلة الحسم النوعي هذا الأسبوع عندما قرّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إجراء استفتاء في منطقة دونباس لضم المناطق الانفصالية الأوكرانية الى روسيا ستغيّر نتائجه قواعد الحرب، متحدّثاً في الوقت ذاته عن جدّيّة الخيار النووي ومعلناً التعبئة الجزئية لحوالى 300 ألف، ما يوحي بحجم الحرب في الأسابيع المقبلة. بات واضحاً بلا أي شك للذين اعتقدوا أن هناك بصيص أمل في أن يتخذ فلاديمير بوتين مواقف تفتح الباب على التفاوض أو على التراجع بأن الرجل عازم ومقتنع بأنه سينتصر في حرب أوكرانيا ولن يسمح حتى بفكرة الهزيمة. مثل تلك النتيجة تتطلّب حتماً قذارةً وشراسةً وأخطاء متعمّدة تدمّر البنى التحتية ولا تأبه بالكلفة الإنسانية ولا بقيم الآخرين نحو مثل تلك الحرب. فالرئيس الروسي لا يخاف استدعاء حرب أوروبية وتدخلٍ أميركي عسكري بعدما قرّر أن يضع حلف شمال الأطلسي (الناتو) على حافة أعصابه بكلامه عن الانتصار الضروري مهما كان الثمن وعن جدّيّة الخيار النووي.
في المقابل، واضح أن القيادة الأميركية والقيادات الأوروبية حسمت أمرها في معادلة الهزيمة والانتصار في أوكرانيا ولن تسمح لروسيا بالسيطرة على أوكرانيا مهما تطلّب الأمر. هذا يعني أن ما بدا مستحيلاً قبل شهر أو شهرين بات وارداً الآن، والمقصود هو احتمال اضطرار الولايات المتحدة للانجرار الى الحرب الأوكرانية – الروسية بقوات أميركية، وإمكان تورّط أوروبا مباشرة في هذه الحرب عبر بوابة استخدام روسيا الأسلحة النووية التكتيكية – وبعضها ليس أبداً تكتيكياً ولا محصوراً بمسافات قريبة. فلمن الهزيمة ولمن الانتصار في الحرب الأوكرانية؟
لنتحدّث أولاً عن الصورة الكبرى: في ظل الاستراتيجية الأميركية التي يعتبر كثيرون أنها أساساً اعتمدت توريط فلاديمير بوتين من أجل تدمير النظام System الحاكم في موسكو بل وتدمير روسيا. والسبب الأساسي وراء ذلك له علاقة بالاستراتيجية الأميركية نحو الصين والطموحات الصينية.
قبل الغوص في الاستراتيجيات الكبرى، لا بد من القول إن براعة ونباغة صنّاع القرار مهما تكن متفوّقة فإنها تتطلّب انصياع الطرف المعني الى المصيدة وإيقاع نفسه في الفخ. فلاديمير بوتين عاند وضاعف رهانه وأصرّ على مكابرته أكثر من مرة. اعتقد أن إنذاراته الشهيرة ultimatums واعتماده أساليب التصعيد كجزء من الرهان double down ستؤدّي الى تراجع الغرب وتلبية رغباته، وبالتالي، الى انتصاراته. حتى الآن، واضح أن فلاديمير بوتين خاسرٌ في رهانه بل يبدو وأنه يسير في الخطى التي رسمها له الغرب الى مصيدة تدمير روسيا.
بهمسٍ، يتحدّث البعض في روسيا عن تدمير الحرب الأفغانية للاتحاد السوفياتي قبل عقود، وتدمير الحرب الأوكرانية لروسيا اليوم. لم يعد الرئيس الروسي قادراً على إعادة النظر في حرب أوكرانيا، لأن التراجع، في هذا المنعطف، يعني انهيار النظام الحاكم برمّته وليس فقط انهيار بوتين. المشكلة هي أن المضي في هذه الحرب يهدّد بدوره بالانهيار التام إذا خسرت روسيا الحرب. لذلك إن الخسارة ليست في قاموس بوتين ولا في قاموس المؤسسة العسكرية لا سيّما بعدما كشفت الحرب الأوكرانية الوهن فيها وجرّدها جزئياً من هيبتها.
انتصار “الناتو” في هذه الحرب يعني أن حلف شمال الأطلسي تمكّن من تفكيك روسيا ونظامها وكامل النموذج الذي بنى فلاديمير بوتين روسيا عليه. يعني نهاية روسيا بوتين ونهاية روسيا اليوم.
فوائد إلحاق الهزيمة بروسيا، من وجهة النظر الأميركية، تصبّ في خانة الاستراتيجية الأميركية نحو الصين. القائمون على صنع القرار الاستراتيجي في مجلس الأمن القومي يعتقدون أن تدمير النظام الروسي وإلحاق الهزيمة بروسيا يعني خسارة الصين لشريك استراتيجي، عملياً وبسيكولوجياً.
يعني أيضاً، بحسب تعبير خبير مطّلِع أن الصين ستخسر -بخسارة روسيا- “منطقة عازلة” مفيدة ستدفع بالصين الى أن تصبح في الخطوط الأمامية من المواجهة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
بالطبع، هناك من يتحدّى صحّة هذا التفكير ومنطق تدمير روسيا من أجل المعادلة الاستراتيجية الأميركية مع الصين. هناك أيضاً من يشير الى خطورة ومخاطر استراتيجية “الناتو” في حال تطوّرت الحرب الأوكرانية الى العتبة النووية وأتت بانتصارٍ روسي، كما يراه فلاديمير بوتين.
بدايةً، إن الوصول الى المرحلة النووية، تكتيكية كانت أو عبر استخدام صواريخ “اسكندر” برؤوس نووية، يعني احتمال الوصول الى الويلات والشرور طبقاً لتعبير “صندوق باندورا” الذي لا فكرة عما في داخله سوى المفاجآت بعد فتحه.
ثانياً، روسيا ستتعمّد توسيع حدود الهزيمة أو الانتصار. بمعنى، أنه في حال انتصارها، لن تكتفي روسيا بحدودها الحالية مع حلف “الناتو” وإنما ستتعمّد إعادة خلط الأوراق الجغرافية – السياسية في أوروبا عبر إجراءات نحو بولندا ودول البلطيق. وفي حال وصول روسيا الى حافة الهزيمة، سيتعمّد فلاديمير بوتين ارتكاب أخطاء على نسق تدمير المطارات المهمّة لسلاح “الناتو” داخل بولندا بالقرب من أوكرانيا، بحسب تقويم مصدر مقرّب من التفكير في الكرملين. ذلك أن فلاديمير بوتين لن يسمح بفكرة الهزيمة لأنها باتت الآن خارج نطاق فكره ونهجه.
الأسبوعان المقبلان خطيران جداً. الرئيس الروسي لن يقبل بفكرة أوكرانيا للطرفين، وكذلك الرئيس الأوكراني الذي بات واثقاً من أن حلف “الناتو” سيضمن له التفوّق التكنولوجي في حربه مع روسيا. لذلك، فولوديمير زيلينسكي لن يتراجع وهو يعتبر أن فشل بوتين في إزاحته عن الحكم هو انتصار له في الحرب الأوكرانية. ثم إن أدوات الحروب الجديدة اختلفت ولم تعد قائمة على معارك ميدانية بين الجيوش. إنها الحروب التكنولوجية، وزيلينسكي يخوض الحرب ضد الغزو الروسي لأوكرانيا بتكنولوجيا “الناتو” المتفوّقة.
قد يضطر حلف شمال الأطلسي أن يتدخل مباشرة في الحرب لحماية المفاعلات النووية الأوكرانية إذا طلب زيلينسكي من دول “الناتو” ذلك، علماً أن لدى أوكرانيا 14 مفاعلاً الى جانب زابوريجيا الذي يقع تحت السيطرة الروسية. هكذا قد تتحوّل الحرب الأوكرانية الى حرب أوروبية.
ثم إن الولايات المتحدة، ومن أجل حماية المفاعلات النووية الأوكرانية، قد تكون مستعدّة لتزويد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى، تصل الى 400 كيلومتر، ويصل مداها الى القرم، بحسب الخبراء العسكريين. في ظل اتخاذ مثل هذا القرار، قال خبير روسي، مشيراً الى وصول صواريخ أميركية الى أوكرانيا مداها قد يطاول موسكو، ستستخدم روسيا الأسلحة النووية.
الرئيس الروسي يُهيِّئ الأرضية ليقول إن استخدام الأسلحة النووية يأتي دفاعاً عن روسيا أمام عدوان ضدها وذلك في أعقاب الاستفتاء في مناطق دونباس الذي سينتهي في 27 الشهر الجاري بنتيجة مسبقة وهي: انضمام تلك المناطق الانفصالية الى روسيا. وبالتالي، وانطلاقاً من تاريخ 29-30 أيلول (سبتمبر)، وبعد مباركة “الدوما” لنتائج الاستفتاء، سيصبح أي هجوم على تلك المناطق “الروسية” عدواناً ضد روسيا يعطي الكرملين “حق” الرد بأيّة وسيلة متاحة، بما فيها النووية.
بكلام آخر، ووفق تعبير مخضرم في موضوع المناطق الانفصالية “ستزول المنطقة الفاصلة buffer zone بين روسيا وأوكرانيا، وستدخل الحرب عتبة جديدة تشمل تفعيل أدوات الاستراتيجية النووية الروسية بناء على القوانين الوطنية وللدفاع عن أراضٍ روسية بكل الوسائل المتاحة”.
الانتصار العسكري الروسي، إذا كان له أن يتحقق، فإنه يتطلّب منطق التدمير التام على نسق ما يُعرَف بـ”سيناريو بغداد” إشارة الى الطريقة الأميركية للانتصار في الحروب. الانتقال الى ذلك التكتيك وارد جداً في أعقاب الاستفتاء وبعد تفعيل التعبئة الجزئية. لذلك، إن الأسبوعين المقبلين خطيران جداً.
فلاديمير بوتين سيحتفل بعيده السبعين في 7 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. الشعب الروسي ما زال في شبه غيبوبة عن واقع الحرب الروسية في أوكرانيا. التعبئة الجزئية قد توقظه قليلاً ليدرك جدّيّة ما آلت اليه روسيا في مواجهتها مع دول حلف شمال الأطلسي. عيد ميلاد الرئيس الروسي يحمل تقليدياً معه تطوّرات ومفاجآت وإصراراً على إبراز الإنجازات. الخوف كل الخوف هو أن تكون نوعية الإنجازات … نووية.