لم يعد خافيا على أحد مدى أهمية طرابلس وريادتها وموقعها ودورها السياسي والإستراتيجي حتى قبيل الفتح الإسلامي ، على يد الصحابي الجليل سفيان بن مجيب الأزدي عام ٢٤ للهجرة.
ويعلم المطلعون على تاريخ هذه المدينة العريقة مقدار مكانتها وعراقتها منذ أن كانت منطلق الأسطول الأموي من مرفئها ، ثم حاضرة علمية كبرى تضم أضخم مكتبة عامة .
وتعتبر طرابلس من أهم المدن الإسلامية على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط بعد أن حررها السلطان منصور قلاوون من الفرنجة الصليبيين عام ١٢٩٤م فيتعزز دورها وتزداد أهميتها لتغدوا المملكة الطرابلسية الشريفة حيناً ، ومقر ولاية شاسعة أفاض في تعداد مآثرها المؤرخون والرحالة سواء في عصر المماليك أم فيما بعد أيام السلطنة العثمانية التي حرصت على إيلاء طرابلس كل عناية ورعاية وإهتمام بما لم تحظ به مدينة أخرى في ساحل بلاد الشام من الإسكندرية حتى الإسكندرون.
وتمثلت حظوة طرابلس بإيلاء الدولة العثمانية عنايتها بهذه المدينة على الصعد الإدارية والإقتصادية والإجتماعية ، وبخاصة الدينية ، حيث حرصت على حسن إختيار قضاة الشرع الحنيف ونقابة الأشراف وأئمة المساجد وخطبائها وضبط أوقافها وشؤونها الدينية كافة ، كما كان الإهتمام كبيرا بمنصب الإفتاء الذي كان ميزة لمدينة طرابلس طوال عدة قرون.
لقد كانت طرابلس تمثل الثغر المرابط ، أي الموقع الأمامي المتقدم لبلاد الشام الأمر الذي منحها هذه المكانة السياسية والإقتصادية قبل أن تعمد سياسة الأمر الواقع آنذاك الى تهميش فاعليتها وتحجيم دورها لأسباب لم تعد خافية على أحد ، لعل أبرزها تمسك أبنائها وعمقها الإستراتيجي في المناطق المجاورة لها بأواصر عروبة الإسلام.
ولا بد في هذا المجال من التأكيد على أهمية الثقل الإسلامي السني في طرابلس والميناء والبداوي والضنية والمنية والكورة والبترون والقلمون وغيرها.. فضلا عن عكار وهي ميزة فريدة وخاصة بهذه المدينة وهذه المنطقة السنية.
حيث أن هذه المدينة وجوارها تضم أبرز الهيئات الإسلامية والتيارات الفكرية والجمعيات الدينية والخيرية والمؤسسات التربوية ومراكز تعليم القرآن الكريم وأكبر عدد من المساجد التراثية والحديثة ، وأهلها مؤمنون ومتدينون بالفطرة في غالبيتهم ولهم دورهم المشهود في المحطات المصيرية والمواقف الكبرى بما يتميز به أبناؤها من عنفوان ورجولة وشهامة وبذل على الصعد السياسية والوطنية والدينية بشكل خاص .
ونظرا لأهمية مدينة طرابلس ودورها المميز ليس في لبنان وحسب بل وعلى ساحل بلاد الشام ، فإن لمركز الإفتاء فيها بالتالي له حتما تلكم الأهمية المميزة في المناطق اللبنانية وبخاصة عندما نقف أمام ما كتبه الرحالة والمؤرخون خلال القرون الماضية حول الدور الهام الذي يلعبه مفتي طرابلس والشمال في هذه المنطقة التي تلتف حول مبادراته وآرائه في معظم المواقف المشهودة .
مع العلم أن المفتي المحلي أي مفتي المنطقة ، كما هو منصوص عليه في المرسوم الإشتراعي رقم ٥٥/١٨ والذي يجب تعديله في كثير من المواد وخاصة بعد عقود من تاريخ إصداره ليتوافق مع المستجدات على كافة الصعد الدينية والسياسية والإجتماعية وغيرها…
ومن هذا التعديل يجب إعطاء المفتي صلاحيات أكثر لأنه مسؤول في بعض المواد ولكن بدون صلاحيات ..
ومما جاء في المادة ٢٨ عن المفتي المحلي : ( يرعى مصالحهم الدينية والوقفية والإجتماعية والمحلية( للمسلمين) …
ويعنى بالعلماء ويسهر على حسن أدائهم الواجبات الدينية ، ويضع المناهج الواجب إتباعها في شؤون الوعظ والإرشاد والتوعية الإسلامية وفي مختلف المواسم الدينية بشكل يتفق مع أحكام الشريعة وحرمة الدين ، ويؤدي غاياته في التثقيف والتعليم..)
من هنا ندرك عظم المهمة الملقاة على عاتق مفتي طرابلس والشمال ، والوظائف المتعددة والمنوعة التي يمسك بزمامها ، ويدير شؤونها وهي كما رأينا في المادة المذكورة سابقا تحيط بكافة قضايا المسلمين في المنطقة وأمورهم الدينية والدنيوية على السواء .
ونحن اليوم نتطلع الى مستقبل هذا المركز والعمل كلنا من أجل تأكيد حضوره القوي ودوره المميز وإستعادة هيبته التي تصون هذا الدور وهذه المهمة الإسلامية الرفيعة وتحفظ عراقة منصب الإفتاء التاريخية على الصورة المتوخاة في هذه المنطقة الإسلامية الكبرى.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
أخوكم الشيخ مظهر الحموي