خاص الهديل:
انتهى مونديال قطر على تأكيد رسائل وأفكار ذات صلة بالسياسة وفي الثقافة وفي الاقتصاد والاجتماع، ولم ينته مونديال قطر فقط على مشهد هزيمة فرنسا التي تمثل قلب أوروبا، أمام فريق الأرجنتين الآتي من ضواحي العالم في أميركا الجنوبية الفقيرة.
ان المونديال في قطر، كما هو حاله كل أربع سنوات، جعل العالم يحبس أنفاسه ليعرف من هو البلد الذي سينال لقب الدولة العالمية الأولى التي تملك بدل الثروة الاقتصادية والتكنولوجية، “ثروة الأقدام الذهبية” وثروة التفوق البدني والمهارات الأكثر شعبية؛ وهذه كلها نوع من الثروات يمن بها الله غالباً على الققراء، ويحبسها عن الأغنياء، كما هو حال دول أميركا الجنوبية الغنية كروياً، بمقابل دول قارات الرخاء الاقتصادي في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، التي لا زالت تبحث عبثاً عن الثروة المطلقة في هذا المجال..
ومن الصور التي ستظل ماثلة في عقل وعيون الرأي العام العالمي بعد إنجاز مونديال قطر؛ هي صورة تظهر كيف تستطيع الدول الصغيرة، فيما لو أحسنت توظيف ثرواتها وتخطيط مستقبلها وأهدافها، أن تصبح لها القدرة ليس فقط على محاكاة الدول الكبيرة وتجاوزها، بل على أن تصبح لها مكانة الدول العالمية بالمعنى الاستراتيجي.
إن مونديال قطر حمل بشكل أساسي للعالم هذه الفكرة عن أن المستقبل هو للدول الصغيرة التي تملك القدرة على القيام بالأدوار العالمية الكبيرة. وهذه الفكرة التي تعتبر قطر نموذجاً فيها، هي فكرة يحتاجها العالم الجديد الذي يواجه أحداث وأزمات أخطر ما فيها أنها تؤشر إلى أن معظم الصراعات والكوارث، باتت تنشب نتيجة الفجوة الإنسانية والحضارية العائلية الناتجة، عن تغير المفاهيم، بمقابل عدم استقرار المفاهيم الجديدة التي ينبغي أن تحل مكانها؛ وخلاصة القول هنا أن العالم الجديد بتوازناته الجديدة، لم يعد يستطيع أن يستمر بذات المفاهيم القديمة التي باتت عاجزة عن حل الجيل الجديد من المشاكل الإقتصادية والثقافية والإجتماعية والسياسية؛ وعليه أصبح هناك حاجة للإبداع في طرح المقاربات الجديدة، وللابداع في استنباط الجهات الخلاقة القادرة على القيام بأدوار وبمبادرات تسهم بإنجاز السلم العالمي الجديد الذي هو سلم ثقافي واجتماعي وإنساني، بأكثر مما هو سلم عسكري وسياسي.
والواقع أن أهمية مونديال قطر تكمن في أنه سلط الضوء على دور تقوم به قطر قبل المونديال الذي استضافته وتستمر به بعده، وهو دور سيصبح بعد المونديال نموذجاً لدول أخرى لها مواصفات قطر، كي تقوم به، وذلك بعد أن ظهر أن الدول الكبرى تتعثر بالقيام به نتيجة ما تعانيه من “تعب روحها”، رغم تضخم ثرواتها وترامي مساحاتها.
إن قطر قبل المونديال واليوم أكثر بعد المونديال، هي دولة موجودة عالمياً كقوة وصل حضاري، وتواصل إنساني لبناء السلم العالمي الجديد ذي الأبعاد الثقافية والإنسانية وليس فقط الإقتصادية والعسكرية والسياسية: ان دور قطر السلمي في مشكلة افغانستان، يتضمن هذا البعد عن الدول الجديدة المثقلة بقوة روح المبادرة لديها، والقادرة على مقاربة الأزمات الأخطر في العالم الجديد المتمثلة بالحروب التي تتضمن صراعاً شرساً ومدمراً لروح العالم، لأن سمات هذه الحروب أبعد من كونها عسكرية، وأكثر من كونها ثقافية، لترقى لمرتبة الحضارية. وضمن هذا المعنى، فإن قطر لم يكن دورها في افغانستان مجرد “ترسيخ هدنة”، و”عقد صفقة وقف اطلاق نار”، بل وضع اللبن الإنسانية الثمينة والنادرة لإنشاء سلم بين حضارات وثقافات؛ وكذا الأمر فعلت في لبنان بخصوص اتفاق الدوحة الذي أطال عمر هدنة الطائف ومنع عودة الاقتتال الطائفي، وحاول أخذ بلد الأرز الى مقاربة ما بعد الهدنة، والى عمق ترسيخ السلم الاهلي وليس السلم الحزبي.
ما فعلته قطر المونديال ٢٠٢٢، هي أنها استكملت شهادتها العالمية بأنها نموذج تبشر حضارياً بثلاثة أمور هامة يحتاجها العالم الجديد الذاهب إلى استبدال مفاهيمه العاجزة والقاصرة إنسانياً وحضارياً، بمفاهيم فاعلة وقادرة وخلاقة:
الأمر المفاهيمي الأول يتمثل بأمثولة ان الفعل العالمي الخلاق الإيجابي يحتاج “لارادة روح غنية”، وليس بالضرورة لوفرة بشرية واقتصادية؛ وقطر خلال المونديال وأثنائه وبعده، هي نموذج على هذه الامثولة التي يحتاجها العالم الجديد.
الأمر المفاهيمي الثاني يتعلق بأن حدود قطر الحقيقية ليست فقط حدودها الجغرافية، بل أيضاً وبالأساس هي حدودها الحضارية والثقافية والإنسانية؛ بمعنى ان قطر هي من الدول القليلة في العالم التي تتموضع داخل حدود دورها الكبير الذي يغني على نحو غير محدود، حجمها الجغرافي والبشري الصغير..
إن قطر باتت رسالة عالمية للدول قليلة الحجم الجغرافي والقليلة العدد سكانياً.. وتقول هذه الرسالة ان “المهمة الحضارية” هي المساحة الجديدة للدول الكبيرة في أدوارها، وذلك على عكس الدول المتضخم حجمها الجغرافي والمتضاءل دورها داخل المهمة العالمية الحضارية أو حتى المعادي لهذه المهنة.. قطر تعيد صياغة مفهوم من هي الدولة الصغيرة ومن هي الدولة الكبيرة؟؟ وتعيد صياغة المفاهيم لجهة تسليط الضوء على مفهوم “الانتماء للمهمة الحضارية” ومفهوم “الانتماء لارادة الروح الغنية”، كمعايير يتم من خلالها تحديد الأحجام الحقيقية للدول والشعوب.
الأمر المفاهيمي الثالث الذي قدمته قطر من خلال هذا المونديال، هو غاية في الأهمية لأنه يسهم في انهاء ما يسمى بصراع الحضارات المحتدم حالياً في العالم. وهذا المفهوم الذي قدمته قطر أظهر أن الأصالة التي يجري ترشيدها، لا تتعارض مع الحداثة التي تتفلت من المحددات؛ وأظهر أن الموروث القيمي يصبح قيماً تكاملية مع التحديث فيما لو استند إلى تفاعل إنساني وليس تفاعلاً استهلاكياً.
والواقع أن هذه القضايا التي قدمت قطر خلال المونديال إشارات وأضواء عليها، تستحق ان تنظم الدوحة بعد المونديال مؤتمرات للتباحث بشأنها وذلك تحت عنوان: “العالم بعد مونديال قطر”.
مرة اخيرة، وليس لآخر مرة، يجب التوقف عند حقيقة أن مونديال قطر ترك في أثره رسائل رياضية هامة، ولكنه أيضاً ترك في أثره رسائل أبعد من الرياضة، وهي تطال مفاهيم بالسياسة والاجتماع والثقافة والأمور الحضارية.. وكل هذا يستدعي المتابعة لبلوغ أفضل الصياغات في تعريف الدول ذات “إرادة الروح الغنية”؛ وقطر هنا نموذجاً ورسالة..