المقال الرابع
الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري وزير دولة بدرجة نائب رئيس وزراء، رئيس مكتبة قطر الوطنية، يكتب عن مونديال قطر، فيؤرخ لهذا الحدث الكبير من زواياه المختلفة بأسلوب رشيق فيه من الموضوعية والعلمية ومشاعر اللحظة القطرية الهامة، ما يجعل نصه بمثابة شهادة هامة على مونديال قطر…
فيما يلي نص المقال الرابع والأخير من مقالات الدكتور حمد الكواري في جريدة الشرق القطرية:
ماذابعد المونديال؟ (4-4)
ماذا بعد المونديال؟ لم يكن هذا السؤال البديهي حاضرا بقوة قبل سنوات وحتى أيام قليلة من إطلاق صافرة نهاية المباراة الأخيرة. لم نفكّر كثيرًا فيما بعد نجاح قطر في تنظيم نسخة استثنائية لكأس العالم 2022، كنا نعلم مثلاً مصير تلك الملاعب الأيقونات التي شدت أنظار المليارات وعشقها المشجعون واللاعبون الخاسرون والرابحون، فملعب 974 صمّم منذ البداية ليفكَّك بالكامل، وسيقدَّم للدول التي تحتاج ملاعبها للمقاعد في إطار تنميتها، وأمَّا الملاعب الأخرى فستُفكَّك الآلاف من مقاعدها لتُخفَّض طاقتها الاستيعابية بما يكفي احتياجات الرياضة في قطر، ولتوفير جزء من البنية التحتية الرياضية للدول النامية، بالإضافة إلى أن بعض الملاعب ستشهد تغييرات إضافية، فملعب لوسيل سيُحوَّل إلى وجهة مجتمعية تضم مدارس ومتاجر ومقاهي وعيادات طبية، بينما سيضم ملعب الثمامة فرعا آخر لمستشفى «سبيتار» وفي مكان المدرجات العليا سيبنى فندق صغير، وبعد أن تُخفَّض الطاقة الاستيعابية لملعب المدينة التعليمية سيكون وجهة رياضية وترفيهية، هكذا يكون مصيرُ الملاعب التي شهدت أروع المباريات وصولات نجوم كرة القدم وأهازيج المشجعين وآمالهم، وإذا كنا نعلمُ ما ستؤول إليه هذه المعالم التي تحوَّلت إلى جزء من الذاكرة الرياضية العالمية، فإننا نُمعن النظر في مكاسب المونديال الأخرى.
إنني لا أنكر ذلك الشعور الغريب الذي أحسست به كلَّما كنَّا نقترب من نهاية المونديال، فرقٌ تخسر فتغادر قطر ويُغادر عقبها أغلب مشجّعيها وفرقٌ تنتصر لتظلّ إلى آخر مباراةٍ، ومع كلّ موجة مغادرين تنتابني قشعريرة وداعٍ. حقّا، لقد ألِفت مثلما ألِف القطريون والمقيمون على أرض قطر ذلك الوئام بيننا وبين مرتادي كأس العالم، خلال شهر كامل نمَت بين الجميع صلات نفسية وثقافية راقية، لم تكن الأعلام المميزة لمنتخبات الدول المشاركة تمنعُ ذلك التواصل الخلاَّق بين الجميع، ولم تمنع الاختلافات الثقافية من تواجد الجميع على أرضية الاحترام والتقارب. لقد أفقنا جميعا بُعيْد ساعات من نهاية كأس العالم بشعور من يودِّع أحبابهُ من الأسرة الإنسانية الواسعة، بعد أن نلنا تجربة مُثلى في العيش المشترك، فقد مرَّ كأس العالم دون ذلك الشَّغَب الذي اعتدنا مشاهدته في نسخ أخرى منه في بلدان أخرى، لا عراك في الشوارع ولا مضايقات للنساء في المدرجات أو في أي مكان، ولا كلام فاحش أو سباب بين المشجعين المتنافسين، مرّ كلّ شيء بسلاسة وسلامٍ، كأنّه حلمٌ. وليس المهمّ أنّ تنظيم كأس العالم في قطر سفَّه أقوال المناوئين لهُ، ولكنَّ المهم هو ذلك الرصيد الرمزي من التجربة الاجتماعية التي استفاد منها المجتمع القطريّ أولا وقدّمت للعالم صورةً مختلفة عن الرياضة لجميع أبناء المعمورة. لقد كان الشعور بالأمان لدى كلّ مشجّع دافعا للتعرّف على ثراء المجتمع القطري وثقافته العربية الإسلامية، فقد رأى العالم كيفَ تفاعلت جماهير المشجّعين مع العلامات الثقافية القطرية من لباس وأكل ولهجة وعادات وتقاليد، بل إنني أكاد أجزم بأن هذه التجربة النفسية والفكرية التي عاشها المشجعون ستقلب الكثير من الأفكار في المستقبل عن الشّرق الأوسط وعن العرب المسلمين تخصيصًا، وسيستيقظ العديدون على خداع الأباطيل الإعلاميّة التي حاولت التشويش على سير المونديال، بذلك تسقط أقنعة الإعلام أمام انكشاف الحقائق، فلا يُمكن استبلاه العالم وشهود العيان من كلّ مكان أقروا بمتعة نجاح التجربة القطرية في تنظيم الكأس.
لا أخفي على أحد أنني كنتُ أتابع خلال فترة كأس العالم، المباريات في الملاعب، ومباريات أخرى تقع خارجها بين المشجعين والقطريين والمقيمين هدفها الأساسي هو التنافس في إبداء المودَّة الإنسانية وتحقيق التقارب الثقافي وكأنه خيار الشعوب منذ القديم، أو هو قدرٌ في الجينات البشرية، ولأقل إنه من فطرة الله التي فطر عليها عباده ليتعارفوا.
هكذا كسبنا التجربة المجتمعية التي سيكون لها تبعات إيجابية على المجتمع الآن وغدا، وستسم تكوين الأجيال القطرية والعربية على السواء وتهبها الأمل والتفاؤل في مستقبل أفضل، إنّني أذكر قول نيلسون مانديلا: «يمكن للرياضة أن تُحقّق الأمل حيثُ كان هناك يأس فقط»، ولا أحد ينكرُ أن اليأس كاد يلتهم الشّعوب العربيّة في إمكانية استئناف «اللعب» الحضاري والمساهمة في بناء الحضارة الإنسانيّة، فقد أعادت هذه النسخة من كأس العالم الأمل من جديد في قدرة العرب على مجاراة نسق الحضارة، ولأكن أكثر جرأة في القول بأنّ هذا النجاح المستفزّ لكلّ العنصريين في العالم، مكَّن العرب والمسلمين من التخلي عن تلك الصورة التي كست تفكيرهم بشأن دورهم في العالم، وهي صورة استشراقية تعمَّد الغرب الاستعماري تصويرها لنا وإرغامنا على الاقتناع بأنها «حقيقتنا»، ولكن بئس ما كانوا يفعلون!
دبلوماسية رياضية مُبهرة
أكدنا في أكثر من مناسبة على عناية دولة قطر بالدبلوماسيّة الرياضيّة منذ سنوات، وأبرزنا أهمية ذلك في نطاق الدبلوماسيّة التقليديّة ومكانتها في الدبلوماسيّة الثقافيّة عموما، لإيماننا بأنّ هذه الوسائل لها نجاعة خاصّة في تأهيل الدول للعب أدوار كبرى في العالم، وإذا كان كأس العالم لكرة القدم هو المرآة الأكثر انعكاسًا لتجربة الدّول في الدبلوماسيّة الرياضيّة، فإنّ قطر سجّلت بنجاحها في التنظيم هدفًا في مرمى التقدّم. ليست الرياضة قطاعا هامشيّا أو رهينة مناسبات، بل هي في رؤية دولة قطر مجالٌ أساسيّ في نمط العيش قبل أن تكون مجالَ تأثير في العلاقات الدوليّة، فالمجتمع الآمن الذي أُعجب به العالم هو وليد تلك النظرة للرياضة المجتمعيّة، حيثُ أصبحت الرياضة في قطر شعارا للتعاون وليس شعارا للتنافس.
لقد ظلّ العرب بعيدين عن لعب الأدوار الكبرى في الرياضة، لذلك لم تكن لديهم دبلوماسيّة رياضيّة مؤثّرة، علاوة على ضعف الدبلوماسيّة الثقافيّة، ولعلّ الدرس القطري يفتح باب التفكير من جديد في هذه الوسيلة، خاصّة بعدما أيقنت الشّعوب قبل الدّول بأنّ مكاسبها لا تُعدُّ، فقد اعتدنا أن نُرجع قوّة الدول العظمى إلى ما هو عسكري أو اقتصادي متناسين ما توليه من أهمية للقوّة الناعمة، إنّني ما زلت أذكر أحداثًا لعبت فيها الدبلوماسيّة الرياضيّة ما لم تقم به الدبلوماسيّة السياسيّة من دور في إحلال السّلام أو التقارب بين الشّعوب أو الخروج من الأزمات السياسيّة الدوليّة، ففي عام 2002 غرقت ساحل العاج في حرب أهليّة، وحين تأهّل منتخبها إلى كأس العالم لكرة القدم عام 2006 استغلّ الحدث لإطلاق نداء للسّلام، وناشد قائد الفريق ديدييه دروغبا، وكان لاعبا محترفا في صفوف نادي تشيلسي اللندني، أن يسود السّلام أبناء شعبه، قائلا: «يا رجال ونساء ساحل العاج، في الشمال والجنوب والوسط والغرب، أثبتنا اليوم أن بإمكان العاجيين أن يتعايشوا في سبيل هدف مشترك ألا وهو التأهل لكأس العالم، لقد تعاهدنا أن الاحتفال سيوحّد الناس. اليوم، نتوسّل إليكم ونحن جاثون على ركابنا، مقابل السّماح والعفو والصّفح»، ولا شكّ أنّ كلمات «دروغبا» ليست عصا سحريّة لتغيير الأوضاع في بلد نهشته الصّراعات الدمويّة، ولكنها عبّرت عن الضّمير الحيّ في الشّعب الإيفواري، ولا أحد يُنكر ما لذلك النّداء من أثرٍ في تحقيق ما فشل في تحقيقه السياسيّون الأفارقة آنذاك.
لنتمعَّن في المكسب الكبير الذي حققته القضيّة الفلسطينية من جديد بفضل كأس العالم، لقد نجحت الرياضة في تذكير الرأي العالمي بعدالة القضيّة الفلسطينيّة كقضيّة إنسانيّة بشكل مبهر، فالرياضة كلّما أخلصت للمبادئ التي نهضت عليها فإنّها تكون وفيّة لكلّ قضيّة إنسانيّة، فكان رفع الراية الفلسطينيّة من قبل المشجّعين بمختلف جنسياتهم دليلاً على حضور فلسطين في الضّمائر الحية في العالم، فرفرف العلم الفلسطيني جنب الأعلام الأخرى في علامة رمزيّة لتوافق إنساني على أنّ الرياضة ليست «أفيونًا» يُلهي الشعوب عن قضايا البشر، وهذه رسالةٌ عميقة من رسائل كأس العالم قطر 2022.
كأس العالم ليس التحدي الأخير
نظر القطريون إلى كأس العالم باعتباره تحديا عندما أعلن الفوز بملفّ الترشّح منذ 2010، إذ تندرج استضافة المونديال في «وسم» الدولة وصورتها في العالم، فقد أخذت السياسة الخارجية القطرية الحكيمة في لعب دورٍ كبير خلال السنوات الأخيرة في جهود الوساطة المتعددة في ملفات سياسية ساخنة وشائكة من قبيل اتفاق السودان ولبنان 2008، وأفغانستان 2022، والتشاد 2022، وقد منح نجاحها كوسيط دولي في إظهار صورتها كدولة تؤمن بالسلام الدولي وتحث الأمم على تحقيقه، وليست الرياضة غير جزء من هذا الاتجاه الإستراتيجي العام لدولة قطر. ومما زاد في توسيع انتشار صورة قطر دون شك في نسخة هذه الكأس هو التطور التكنولوجي الكبير لوسائل الاتصال، حيثُ نجحت قطر في توظيف هذه الوسائل لتقديم أفضل صورة عن المونديال أوَّلا ولتقديم ثقافتها ثانيًا، فقد تناقلت جميع الوسائط الإعلامية التقليدية والجديدة وبكلّ لغات العالم ما يحدث من حلقات «المعجزة القطرية» التي سطرها القطريون فأعادت الثقة للعرب في إمكانياتهم وقدراتهم، وعاشها المتطوعون الذين قُدِّر عددهم بعشرين ألف متطوع، عن قرب وهم سيكونون سفراء للثقافة العربية.
لقد استطاعت قطر أن تقدِّم الثقافة العربية خير تقديم بإنقاذها من النمطية المجحفة التي كرَّسها الغرب في إعلامه وأفلامه السينمائية، ويبدو أنّ ما حدث سيعطِّل لوقت طويل الآلة الجهنمية لفبركة الصورة الزائفة عن العرب، ولكن ينبغي استثمار هذه المكتسبات، فهي بذرة طيبة لوجهة جديدة، تحتاج إلى رعاية حتى تنمو وتتطور، فقد صار بالإمكان إيقاف تلك الآلة عن إفراز الأباطيل حول صورتنا، ليكون كأس العالم هو المرآة الحقيقية التي نرى من خلالها صورتنا، إذ نحتاج إلى نجاحات وطعم للانتصارات بعد قرون من التراخي الحضاري، وكل هذه النتائج المبهرة يمكن أن تتلاشى أو أن تدخل «متحف التاريخ» إن لم تتبعها جهود تبني على الإنجازات، فالنجاح الكبير الذي يشهد به القاصي والداني بقدر ما هو مصدر سرور وفرح فإنه يعني مزيدا من تحمُّل المسؤولية على الناجح لاستمرار النجاح واستثماره.
لقد توفَّرت لبلدنا الرؤية والشجاعة لتحدي طلب استضافة المونديال، ثم تطلَّب ذلك العمل ليل نهار لبلوغ قمة النجاح المبهر، فمررنا جميعًا بتجربة ثرية بالتحديات، وقد أصبح لدولة قطر التي تميَّزت قيادتها الحكيمة بالوضوح والصبر، خبرة كبيرة لتدرك ثمن النجاح وتعرف أعداء النجاح أيضا، لذلك فإن المسيرة مستمرة للمحافظة على النجاح والانتقال إلى مراحل أخرى لمزيد كسب النجاحات، وهذا يتطلَّب خطة متكاملة واضحة المعالم للتعامل مع النجاح واستمرار تحصيله في المراحل القادمة، وشعار اليوم الوطني هذا العام منطلق وقاعدة ذهبية لاستمرار هذا النجاح (وحدتنا مصدر قوتنا).
ماذا بعد المونديال؟
مسيرة النجاح والتحديات مستمرة