بقلم: الشيخ مظهر الحموي
كلما طافت بنا الذكريات وحطت رحالها في أي حقبةٍ من تاريخنا تطالعنا أبهى الصور وأنضر المشاهد عما كانت تحفل به مساجدنا من مآثر حضارية مشرقة ومنارات علم رائدة في زمانها وعصرها حتى سميت طرابلس بدار العلم ومدينة العلماء .
فماذا دهانا حتى وهنت قوانا وجدبت ثمراتنا وبات الخواء شعارا ورمزا لنا ؟
إن المرء يتساءل وله الحق في ذلك ، عما أصاب كافة مدننا وقرانا ودساكرنا التي شحب فيها نور العلم وتضاءل فيها صدى الدعاة وخيم الجهل والفراغ والقلق.
وما عن الجهل بالعلوم الدنيوية نتحدث ، وهي التي إتسعت آفاقها وتنوعت مداركها ، وتعددت فنونها وأساليبها فاجتهد الناس في تحصيلها كتباً وأشرطة وأجهزة وإنترنت وكومبيوتر ووسائل إتصال إلكترونية وتلفزيونات أرضية وفضائية…
ولا نقصد بالفراغ إنعدام فرص اللهو وإمكانيات التسلية وتزجية الوقت فكل ما حولنا يغري بالإسترخاء والعبث وسحق الضجر بفنون مستجدة تقضي على كل سَأَمٍ أو ملل.
وليس القلق من هموم الدنيا ومشاغلها ومتطلباتها المعيشية والضرورية هو ما نوليه عنايتنا مع علمنا بما يعتري الناس في هذه الأيام بالذات من ضغوطات ومصاعب معيشية وإقتصادية ومالية وغيرها.
إنه جهل من نوع آخر ، وفراغ يثير الشكوك، وقلق يستدعي العلاج السريع .
ولكن .. أسألكم اليوم أين هي رسالة الدعوة الحقيقية ، وأطباء القلوب ، والمؤنسون في هذه الدار الدنيا الموحشة؟
طبعا ولا شك انه يوجد بيننا بقية من هؤلاء المخلصين الذين نقدرهم ونحترمهم ، ولكنني أتحدث بشكل عام ، أين هم الدعاة الذين عليهم أن ينشروا العلم الشرعي، ويتولوا مهمة الدعوة والنصائح والوعظ والإرشاد والهداية ؟
ولماذا يجبرون على كتم علمهم ويكتفون فقط بالإمامة في الصلوات وخطب الجمعة أو تدريس مادة التربية الإسلامية في المدارس أو في وظائف رسمية في المحكمة الشرعية والأوقاف وعقد القران وإنجاز المعاملات؟
وهل هذه هي المهمة التي خص الله بها علماء الشرع الحنيف فقط؟
أما لاحظ دعاتنا أن دورهم قد إنكفأ وإنحسر وأن أبناءنا باتوا نهبا لكل إعلام مضلل، وانترنت فاسد، ومدارس فكرية زائفة؟
ألا يجدر بنا أن نعود الى ٧٠ سنة من الزمان لنتذكر أروقة العلم في المساجد تقام فيها بعد صلاة الفجر وبعد الظهر وبعد العصر وبين المغرب والعشاء وبعده من كل يوم.
لقد تعلم آباؤنا وأجدادنا العلم الشرعي من حلقات الوعظ والإرشاد وفاقوا في إداركهم وحفظهم ووعيهم لأمور شريعتهم الكثير من المتعلمين ، رغم عدم حيازتهم على الشهادات العلمية الكبرى.
لقد كان كل مسجد في كل مدينة أو حارة أو حي ، جامعة متخصصة ينهل منها أبناء المنطقة علومهم الدينية والشرعية من خلال المدارسة والمناظرة والمحاورة يأتلفون في جلسات ودٍّ وسكينة مع شيخهم يتباسطون في فنون العلم والمعرفة ويتنقلون من تفسير آية الى شرح حديث الى عرض أحكام شرعية وفقهية ويستنيرون منها بكل نهم وشغف وشوق ثم يعيدون النقاش فيما استعصى عليهم أو يعكفون على تلاوة القرآن ويستفيئون السماع الى ترتيله من كبار القارئين ثم يتداولون أحاديث الأدب واللغة والسيرة وتاريخ الأمة.
وكان كل مصلى وزاوية مرتعا لحلقات العلم تتنزل فيها الرحمة والخشوع والسكينة .
حتى مقاهينا كانت تضم في بعض جنباتها مجالس علم شهدت لها الاجيال بما يدور فيها من حلقات نقاش مفيدة للعلماء تثري الجالسين بالمعارف المستجدة وتنقل إليهم طرائف الأخبار وآخر الأحداث من نظرة إسلامية صائبة.
ومن يقرأ بعضا من سيرة مدينتنا وقرانا منذ أوائل القرن العشرين سيجد أن حياتنا الثقافية والفكرية كانت تعج بالعلماء الذين عرفوا كنه دورهم وحقيقة رسالتهم الدعوية فكانوا أشبه بدائرة معارف دينية – فكرية- سياسية – أدبية.
وبعد . هل يمكن لهذه المجالس ان تعود إذا بادرت دار الفتوى ودائرة الأوقاف بعقدها وإقامتها وتنظيم مواعيد دورية لها في المساجد؟
أما آن الأوان أن نتفكر في ما هو مطلوب منا في سبيل الدعوة الى الله في حلقات علم متنوعة ومنظمة في كل المساجد لتكون منارة توعية وإرشاد لأبناء هذا الجيل وكم هي كثيرة الأحاديث النبوية التي تدعونا الى ذلك ..
وهل يجوز لهؤلاء المسؤولين عن العلماء أن يجعلوهم منهمكين في تأمين لقمة عيشهم في ظل هذه الأزمة الإقتصادية الخانقة ولا يكفوهم حاجتهم ليمتنعوا عن ذل الوقوف بأبواب أحد وأن يعيشوا عيشة كريمة ويلتزموا مهمتهم الموكلة اليهم في مساجدهم ليقيموا حلقات العلوم الشرعية المتنوعة وليكونوا منسجمين مع رسالتهم كدعاة ومرشدين وموجهين .
حرام ، يا سادة أن تقفر مساجدنا من ندوات العلم، ونتخلى عن تراث أكابر علمائنا الذين نشروا العلوم الشرعية من خلال تلكم المجالس الوضاءة.
حرام أن نرى بأم أعيننا شباب هذه الأمة لا يرتادون المساجد إلا للصلاة فقط ثم ينتشرون بدون أن يسمعوا كلمة حق يتعلموا منها أمور دينهم وأحكام شريعتهم والى إفتائهم في مشكلاتهم التي تعترضهم ، وهي كثيرة اليوم ومتشعبة وتحتاج الى من يجيب عليها؟
حرام أن لا يتزود الناس بشحنة إيمان يومية أو يستذكروا عبر السلف ، أو يستروحوا نسمات قرآنية ، او لطائف الأحاديث النبوية الشريفة .
حرام أن يحجر على العلم في صدور العلماء ولا ينفجر أمام المتعطشين له من أبنائنا.
إنها المسؤولية العظمى الملقاة على عاتق دار الفتوى ودائرة الأوقاف لينطلقوا الى رحاب المساجد ويؤسسوا لهذه الحلقات العلمية وينظموها ويستعيدوا تراث من سبقونا لتطمئن قلوبنا وتستكين جوارحنا ونحي رسالة المسجد العظيمة.
ولا يظننَّ أحد أن هذه الحلقات ستفشل أو سينصرف عنها المصلون أبدا ، فإن نجاحها مرهون بما يمكن أن يتمتع به الوعاظ والعلماء من أناة وتبصر وحكمة وسعة صدر ولطف وحسن المعشر وعمق في الشرع وإتساع آفاق وتنوع معلومات وهي متوافرة في العديد من علمائنا الأفاضل والحمد لله.
فهل من مبادر الى استرجاع كرامة العلماء وتأكيد رسالتهم وتحقيق دورهم المنشود ؟
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون.