تبدو الأرض الفلسطينية التي تحترق الآن، بالحمم الإسرائيلية الجارفة، مثل جزيرة معزولة تقع وسط محيط من اللامبالاة، تقدم الشهداء والجرحى والمعتقلين، بالعشرات يومياً. الغازي الإسرائيلي يستعيد صورته الأولى منذ أن نزل للمرة الأولى على ذلك الشاطىء وشرع بإطلاق النار على كل ما يتحرك. والمقيم الفلسطيني يمضي قدماً في عمله الفدائي، الانتحاري، الذي أصبح خياره الوحيد في الدفاع عن النفس، في صون الحق بالبقاء.
المجازر الاسرائيلية تتكثف، حتى بات سقوط عشرة شهداء فلسطينيين وعشرين جريحاً يومياً، وما يفوقهم من المعتقلين، من عاديات الأخبار الواردة من الضفة، التي لم يسبق أن قدمت هذا المعدل من الأضحية منذ أن كان الاحتلال. ثمة ما هو غزو إسرائيلي موصوف، ومتقدم على بقية الغزوات السابقة. وهو ناتج عن إنزياح المجتمع الإسرائيلي بغالبيته الساحقة بعيداً عن الإقرار بالوجود الفلسطيني، وقريباً من فكرة الاقتلاع الكامل لذلك الوجود.. وعن تحول الحركة الصهيونية إلى حركة فاشية تؤمن بأن الظرف مناسب لمثل هذا “الحل النهائي للمسألة الفلسطينية”، سواء لدى الإسرائيليين أنفسهم أو لدى حلفائهم في الغرب، الذين ما زالوا يجادلون في أن الفاشيين الإسرائيليين هم مجرد حفنة، بعضهم موجود فعلاً على لوائح الإرهاب في أميركا وأوروبا، وبعضهم الآخر منبوذ بتهمة العنصرية ليس إلا.
الصوت الاميركي والغربي مرتفع نسبياً ضد إسرائيل وسلوكها الفاشي ضد فلسطينيي الداخل، لكنه يتعامل مع هذا السلوك بوصفه مثيراً للحرج لا للخطر. هو يحاول أن يقنع الإسرائيليين أولاً، بأن هذا السلوك يهدد محتوى دولتهم ودورها.. مثله مثل مشروع تعديل النظام القضائي الإسرائيلي الذي يناقش في الكنيست، ويقوض مبدأ الفصل بين السلطات وحرية السلطة القضائية. الشأن الفلسطيني وفق هذا المنطق، الأميركي والغربي، هو مسألة علاقات عامة إسرائيلية، أكثر مما هو قضية سياسية جوهرية، يعبر عنها الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكنه لا يختزلها.. ويمكن استدامتها بين الحين والآخر لخداع الفلسطينيين، كما جرى في الأيام الماضية، عندما غضبت إدارة بايدن بشدة من مشروع استيطاني واسع في الضفة، ولوحت بالتصويت ضده في مجلس الأمن الدولي، لكنها سرعان ما كبتت “غضبها”، وأعطت الضوء الأخضر للاسرائيليين لكي يتابعوا ارتكاب مجازرهم في الضفة..
التورط في هذا الجدال لم يعد مجدياً: الاستنتاج سهل بأن الأميركيين والأوروبيين محرجون بسلوك اسرائيل الحالي، لكن هذا الحرج الذي سبق التعبير عنه في حالات عديدة من الاضطراب في العلاقات الثنائية، لم ولن يوقف يوماً الجنوح الإسرائيلي نحو الفاشية، الذي يبدو اليوم وكأنه بلغ ذروته الأخيرة.. مستفيداً طبعاً من انشغال أميركا وأوروبا بمواجهة التوسع الروسي، ومن غرق العرب في غيبوبة لم يسبق لها مثيل، في تاريخ القضية الفلسطينية.
وحدهم، يتصدى الفلسطينيون لحملة الإبادة الإسرائيلية، التي تشكل منعطفاً حاداً في طبيعة الدولة اليهودية ووظيفتها، ولن يكون المشرق العربي على اختلاف دوله بمعزل عن تداعياتها.. التي ستعيد إلى الأذهان ذكرى النكبة الفلسطينية الأولى، وموجات الزلازل التي ضربت وأصابت العرب في كل مكان.
المصدر: المدن-ساطع نور الدين