كتب عوني الكعكي:
لا شك في ان فرنسا والفرنسيين عندهم رصيد كبير من المحبة والتقدير لدى اللبنانيين، كل اللبنانيين. والجميع يقدّر الارساليات التي أرسلتها فرنسا وأرسلها الڤاتيكان الى لبنان، والتي كان لها الأثر الكبير في تميّز اللبنانيين ثقافياً عن جميع الدول العربية..
تاريخ العلاقات المميّزة بين فرنسا ولبنان تاريخ طويل… كله محبّة وتقدير وإعجاب من كل اللبنانيين حيث يعتبر اللبناني ان فرنسا هي وطنه الثاني، والأهم ان الثقافة الفرنسية طغت على كل الثقافات الأخرى في لبنان، إذ ان بعض اللبنانيين يتحدّثون الفرنسية أفضل من التحدّث بالعربية… ولا أبالغ لأنّ خالتي الراهبة نسيَت “العربية” وأصبحت لغتها الأساسية اليوم اللغة الفرنسية.
هذا على صعيد الثقافة… وهناك أيضاً العلاقات السياسية المميّزة، إن كان ذلك في عهد الرئيس شارل ديغول، كذلك في عهد الرئيس جاك شيراك الذي كان يعتبر من أعز أصدقاء الرئيس الشهيد رفيق الحريري… شيراك الذي استطاع عند صدور القرار 1559 عن الأمم المتحدة والذي يدعو جميع القوات المسلحة الى الانسحاب من لبنان، أن يتحدث مع الرئيس الاميركي جورج بوش ويقنعه بأن لا يكون القرار تحت البند السابع وهذه النقطة هي التي أنقذت لبنان من حمام دم.
ولكن وبعد اغتيال الرئيس الحريري، أفلتت الأمور واتخذ مجلس الأمن قراراً بتحديد يوم 30 نيسان آخر موعد لانسحاب جميع القوات العسكرية غير اللبنانية من لبنان، وهكذا خرج السوريون بعد 30 سنة، أي منذ دخولهم عام 1975 ضمن قوات الردع العربية وبعد انسحاب جميع القوات العربية الأخرى، ولم يبقَ في لبنان غير السوريين.
إنّ الرسالة التي جاءت من القضاء الفرنسي حديثاً والتي تعتبر شرعية وقانونية هي رسالة حسّاسة جداً ذات أبعاد سياسية، إذ تطلب من القضاء اللبناني استجواب شخصين توفرت لدى فرنسا شبهات حول تورطهما في عملية تفجير مقر كتيبة المظليين الفرنسيين قرب مطار بيروت الدولي بواسطة شاحنة مفخخة والذي وقع في 23 تشرين الأول 1983، وتطلب الرسالة من القضاء اللبناني تقديم المساعدة في إطار التحقيق الذي يجريه القضاء الفرنسي في هذا التفجير، وتطلب استجواب شخصين هما يوسف خليل وسناء خليل تتهمهما فرنسا بالتورّط بالتفجير.
فوجئ الجانب اللبناني بالطلب وتوقيته، وتقرر التمهّل بالرد عليه، خصوصاً انه يتناول جريمة مرّ عليها أربعون عاماً، وسقطت بمرور الزمن. وأكد أحد المصادر ان الاستنابة لم تسجل بعد في قيود النيابة العامة التمييزية، حتى انها لم تترجم الى اللغة العربية، بانتظار ما يقرّره النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات بشأنها. وربط المصدر بين هذا الطلب وبين الهجمة الفرنسية على الملفات القضائية اللبنانية، بدءاً من الانخراط الفرنسي في التحقيق في الملفات المالية مروراً بانفجار مرفأ بيروت، والملاحقات التي تطال المدير التنفيذي السابق لشركة رينو كارلوس غصن وغيرها من القضايا، وأوفدت فرنسا قضاة الى لبنان لإجراء تحقيقات بالتنسيق مع القضاء اللبناني. وأشار الى ان الاستنابة الفرنسية تحتاج الى توضيحات، لا سيما ان الشخصين المعنيين فيها مجهولان بكامل الهوية، وليس معروفاً إذا كانا لبنانيين أو انهما يحملان جنسية أخرى.
وللتذكير بقضية التفجير التي تعود الى 23 تشرين الاول عام 1983، حيث ضربت شاحنتان مفخختان مباني في بيروت كانت تضم جنوداً أميركيين وفرنسيين من القوة المتعددة الجنسيات في لبنان “MMF” وهي عملية عسكرية لحفظ السلام خلال الحرب الأهلية اللبنانية، أسفر الهجوم عن مقتل 307 أشخاص: 241 أميركياً و58 فرنسياً و6 مدنيين ومهاجمين.
قام الانتحاري الأول بتفجير شاحنة مفخخة بالمبنى الذي كان بمثابة سكن للكتيبة الأولى من مشاة البحرية الثالثة، كتيبة الانزال BLTI/8 من الفرقة البحرية الثانية ما أسفر عن مقتل 220 من مشاة البحرية و18 بحاراً و3 جنود، ما جعل هذا الحادث أكبر حادث من حيث عدد القتلى في يوم واحد لقوات مشاة البحرية الاميركية منذ معركة أبي جيما في الحرب العالمية الثانية، وأكبر عدد من القتلى في يوم واحد للقوات المسلحة الاميركية منذ اليوم الأول من هجوم تيت في حرب ڤيتنام.
وبعد دقائق، هاجم انتحاري ثان مبنى دراكار المكوّن من تسعة طوابق، على بعد بضعة كيلومترات، حيث تتمركز الوحدة الفرنسية؛ فقتل 55 مظلياً من فوج المظليين الأول وثلاثة مظليين من فوج المظليين التاسع وجُرح 15 آخرون. وكانت هذه أسوأ خسارة عسكرية فرنسية منذ نهاية الحرب الجزائرية. كما قُتلت زوجة بواب لبناني في المبنى الفرنسي وأربعة أطفال، وأصيب أكثر من عشرين مدنياً لبنانياً.
وأعلنت جماعة تسمّى “الجهاد الاسلامي” مسؤوليتها عن التفجيرين، وقالت إنّ الهدف كان إخراج القوة المتعددة الجنسيات من لبنان، وفقاً لكاسبار واينبرغر، وزير دفاع الولايات المتحدة آنذاك، ليس هناك معرفة بمن نفّذ التفجير. وتسلط بعض التحليلات الضوء على دور حزب الله وإيران، واصفة الحادث بأنه “عملية إيرانية من الأعلى الى الأسفل، ولا يوجد إجماع على وجود حزب الله وقت العملية”.
الهجمات تلك أدت في النهاية الى انسحاب قوات حفظ السلام الدولية من لبنان، حيث كانت متمركزة في أعقاب انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية بعد غزو اسرائيل للبنان عام 1982.
وأفادت الأنباء في عام 2004 ان جماعة إيرانية تُدعى “لجنة إحياء ذكرى شهداء الحملة الاسلامية العالمية” أقامت نصباً تذكارياً في مقبرة بهشت الزهراء في طهران تخليداً لذكرى تفجيرات 1983 و”شهدائها”.
ويهمنا هنا أن نذكّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ان فرنسا “حضرت” الى لبنان عبر موفدين لها، بعد تفجير مرفأ بيروت، محاولة المساعدة على تشكيل حكومة، لكن الرئيس ماكرون لم يوفق يومذاك، فعاد ثانية لكنه فشل.
انطلاقاً من ذلك نقول: إنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “المستعجل” حاول أن يلعب دوراً سياسياً في لبنان، لكن الاميركيين لم يسمحوا له بلعب أي دور… لذا فأنا أنصحه وبكل تواضع- أن يركّز جهوده على أموره الداخلية لا الخارجية.
*المقالات والآراء التي تنشر تعبّر عن رأي كاتبها*