جرف نهر الدماء في أوكرانيا اللبناني أحمد عمر أبو العائلة زكريا، الذي قتل باستهداف روسي لمجموعته حين كان يدافع عن أرض وطنه الثاني متطوعاً في صفوف الجيش الأوكراني.
قبل سبعة عشر عاماً أمسك الطفل أحمد يد والده وتوجها مع باقي أفراد عائلته إلى أحد شواطئ الشمال اللبناني، على قارب للموت غادروا لبنان إلى أوكرانيا بحثاً عن الأمن والأمان، من دون أن يتوقعوا أن يتعرض الوطن الذي منحهم جنسيته وأمّن لهم مقومات العيش الكريم، لغزوٍ ويحاصره الموت من كل الاتجاهات.
“أحمد راح”.. بهذه الكلمات الممزوجة بالدموع والغصة والألم، تلقت “أم عبد الله” خبر فقدان ابن شقيقها قبل يومين، لم يستطع والده عمر الغوص في التفاصيل، فقد كان مفجوعاً بخسارة بكره على ولدين، وتقول لموقع “الحرة” “أطلعني أنه سيتوجه من هولندا إلى كييف لاستلام جثته، لذلك سيخرج هاتفه من الخدمة، وفي اليوم التالي أرسل لي رسالة مختصرة بأنه لا يزال في طريقه لإلقاء النظرة الأخيرة على من كان يعتبره عكازه في هذه الحياة وإذ بده يفقده ومعه فرحته”.
تعود ابنة فنيدق العكارية، بذاكرتها إلى سنوات طويلة، حين غادر شقيقها لبنان مع أصدقائه للعمل في أوكرانيا، وتقول “تزوج عمر من أوكرانية وأنجب منها ثلاثة أبناء، ليعود بعد فترة وإياهم إلى وطنه للاستقرار فيه، لاسيما وأنه أصيب بمرض في الرئة حال دون تمكّنه من الاستمرار في العمل، أراد أن يكون بين أهله وأبناء بلدته، وأن يترعرع أطفاله في بلده، لكن للأسف عدم تمكّنه من اثبات زواجه واصدار بطاقات هوية لأولاده لتسجيلهم في المدرسة، إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة وغياب الضمان الصحي، دفعاه إلى اتخاذ قرار الهجرة من جديد بعد مكوثه سنوات قليلة في لبنان”.
على مضض وضّب عمر وزوجته أمتعة أبنائه، ودّع أهله وأقاربه، وبخطوات ثقيلة سار إلى السيارة التي أقلّتهم إلى الشاطئ، وتقول “أم عبد الله” ” فُرضت الغربة عليه كما عدد كبير من اللبنانيين، فهو لم يسافر بحثاً عن الرفاهية ومدخول إضافي، ولم يطمع يوماً أن يكون من الأثرياء وأن يقود أفخم السيارات ويسكن في قصور ويزور منتجعات، بل كل ما كان يطلبه ألا يحتاج أحداً، لكن حتى ذلك أمر صعب المنال في لبنان”.
وتشير إلى أنه “مخطئ من يعتقد أن الغربة سهلة فهي تنتزع الإنسان من جذوره، وتنمّي حنينه إلى المكان الذي آلفه منذ طفولته، وكلما طال أمدها كلما زاد الحنين والرغبة بالعودة”.
لم تفرّق المسافة بين أوكرانيا ولبنان، عمر عن أهله، اذ كان دائم التواصل مع الجميع لا سيما مع شقيقته، يطلعها عن يومياته، والنجاحات التي يحققها أبنائه في الدراسة والعمل، وتلفت “أم عبد الله” إلى أنه “قبل فترة أخبرني بارتباط أحمد من فتاة أوكرانية أحبها، قرر واياها اكمال العمر سوية رغم الحرب الدائرة، فقد كان شاباً مقداماً ومتفائلاً، لا توقفه العقبات، يعمل كل ما في وسعه للوصول إلى هدفه، لكن للأسف آلة القتل والدمار كانت أقوى منه”.
حين بدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، غادر عمر وزوجته كييف متوجها إلى هولندا، في حين بقي أبنائه للدفاع عن أرض وطنهم ودحر العدو واستعادة حريتهم، وبحسب “أم عبد الله” “انقلبت حياتهم كما باقي الأوكرانيين رأسا على عقب، باغتهم الهجوم الدموي الذي تسبب في مقتل مئات الآلاف ونزوح وتهجير الملايين وتحويل مدن إلى أنقاض في مساحات شاسعة من البلاد، ووصلت شظايا الحرب إلى لبنان حيث يعيش من له أقارب هناك حالة من الترقب والقلق والخوف عليهم”.
وحين بدأ الاجتياح الروسي لأوكرانيا، دانت وزارة الخارجية اللبنانية ما أقدمت عليه موسكو داعية إياها إلى وقف العمليات العسكرية فوراً، وسحب قواتها منها والعودة إلى منطق الحوار والتفاوض، “كوسيلة أمثل لحلّ النزاع القائم بما يحفظ سيادة وأمن وهواجس الطرفين، ويسهم في تجنيب شعبي البلدين والقارّة الأوروبية والعالم مآسي الحروب ولوعتها”.
موقف الخارجية اللبنانية جاء بحسب البيان “نتيجة إيمان لبنان بوجوب حلّ النزاعات كافة التي قد تنشأ بين الدول بالوسائل السلمية، أي عبر التفاوض، ومن خلال آليات الوساطة التي يلحظها القانون الدولي، الذي ينبغي أن يبقى الملاذ الأوحد للدول تحت مظلّة الأمم المتّحدة”.
كان أمل عمر أن يأتي اليوم الذي يتمكن فيه من العودة إلى وطنه سواء كان للاستقرار فيه أو على الأقل مكوث بضعة أيام مع أحبائه، لكن بعد خسارة ابنه لا تعتقد “أم عبد الله” ان أي شيء سيتمكن من اسعاده، لافتة إلى أنه “منذ أن غادر أحمد لم يتسن لي رؤيته، كانت المرة الأخيرة التي حضنته فيها حين ودّعته صغيراً قبل الرحيل، انتظرت لقاءه وأخذه بين أحضاني مجدداً، لكن لن تتحقق أمنيتي بعدما دفع روحه كما عدد كبير من الأوكرانيين نتيجة أطماع مادية لدولة ترغب بالتوسّع على حساب الآخرين، فإلى متى ستبقى أرواح الناس أرخص ما على هذه الأرض”