خاص الهديل
كل وقائع الجولة الراهنة من القتال في غزة تضعها إسرائيل في كفة ميزان، فيما تضع واقعة ما يمكن تسميته بصاروخ مستوطنة رحوفوت الفلسطيني الصنع، في الكفة الأخرى.
ومن منظار الرؤية الإسرائيلية إلى وقائع أحداث القتال الجارية منذ أيام والتي أطلقت خلالها حركة الجهاد الإسلامي عشرات الصواريخ من غزة باتجاه الداخل الفلسطيني، فإن المستويين السياسي والعسكري الإسرائيلي على السواء يتوقفان أمام الصاروخ الذي أطلقته الجهاد الإسلامي باتجاه مستوطنة رحوفوت؛ والذي لم تستطع القبة الحديدية اعتراضه ما أدى إلى إحداث تدمير جزئي لأحد المنازل ومقتل وإصابة ٧ مستوطنين.
الواقع أن الصاروخ الفلسطيني الذي أصاب مستوطنة رحوفوت، وبات يعرف اصطلاحاً بإسم صاروخ رحوفوت؛ لا يعتبر من الناحية الفنية صاروخاً متطوراً، ولكنه من الناحية السياسية والمعنوية وشبه العسكرية، يعتبر صاروخاً كاسراً “لقواعد الاشتباك النفسية” السائدة منذ فترة طويلة بين المقاومة في قطاع غزة وقوات الاحتلال الإسرائيلي..
.. لماذا؟ وما هو المقصود بقواعد الاشتباك النفسية؟؟
الصاروخ الذي أصاب مستوطنة رحوفوت وأدى إلى قتل وجرح ٧ مستوطنين هو عبارة عن قذيفة صاروخية من انتاج محلي في قطاع غزة لديه مدى يصل ل٧٠ كلم مع ٢٠ كلغ من المواد المتفجرة. وبهذا المعنى فإن مواصفات هذا الصاروخ عادية جداً ولا تشكل فارقاً نوعياً عسكرياً.
.. ولكن مع ذلك، كان لافتاً أن نتنياهو عقد مع وزير حربه اجتماعاً لتقويم واقعة إطلاق هذا الصاروخ الفلسطيني الصنع وذي المواصفات العسكرية العادية على مستوطنة رحوفوت.. والواقع أن الأسباب التي دفعت نتنياهو لعقد اجتماع تقويمي لبحث “صاروخ رحوفوت”، عديدة وفي مقدمها العامل التالي الذي يركز على اهتمام المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل بدراسة نقطة أساسية، وهي لماذا فشلت القبة الحديدية في اعتراض هذه القذيفة الصاروخية؟؟..
والسؤال هنا لا يتم طرحه من زاوية عسكرية فقط، أو من زواية تقنية صرفة؛ بل من زوايا سياسية ومعنوية ونفسية؛ بمعنى أن السؤال كما يطرحه نتنياهو ووزير حربه، على نفسيهما قوامه ما هو السبب الذي أدى إلى “خطأ صاروخ رحوفوت”، الأمر الذي جعل المعركة في غزة تنتقل من مرحلة أنها حرب بلا خسائر بشرية إسرائيلية، إلى مرحلة أنها حرب تسبب لإسرائيل خسائر بشرية؟..
..وبالنسبة لنتياهو فإن هذه النقطة تعتبر سياسياً أمراً استراتيجياً؛ وتعتبر عسكرياً بمثابة ثغرة تهدد تماسك أهم جبهة تتشكل منها الجبهات التي تدور عليها نظرية الحرب في إسرائيل ضد الجيل الجديد من الأعداء (فصائل المقاومات العسكرية الفلسطينية وغير الفلسطينية)؛ والمقصود هنا هي الجبهة الداخلية.
..وتحليل الموقف الإسرائيلي بخصوص هذه النقطة الاستراتيجية ينطلق هنا من أن نتنياهو أو أي رئيس حكومة في إسرائيل؛ يستطيع تحمل حرب طويلة من القتال؛ ولكن شرط أن يتأمن لإسرائيل شرطين اثنين: الأول أن تفتح له واشنطن مخازن أسلحتها بلا حساب للجيش الإسرائيلي؛ والثاني أن تدور الحرب فوق أرض العدو وخارج “أرض إسرائيل”..
وببساطة يمكن القول أن نتنياهو أو أي رئيس حكومة إسرائيلي يستطيع تحمل حرب تدوم سنة تدور فوق “أرض العدو”؛ ولكنه لا يستطيع تحمل حرباً تدوم شهراً واحداً تجري فوق “ميدان الداخل الإسرائيلي”..
وهذا الاعتبار الاستراتيجي يجعل التقدير الأمني الاستراتيجي الإسرائيلي يعتبر أن أي مقذوفة تتفلت من القبة الحديدية وتصيب منزلاً أو شارعاً داخل إسرائيل، هي إنذار بتبلور معادلة “كسر لتوازن الردع” الذي بنته تل أبيب منذ عقد ستينات القرن الماضي، وذلك على أساس نظرية تفيد بأن “إسرائيل يمكن أن تعيش حالة استقرار وهي في حالة حرب مع العرب”، ويتوقف ذلك على مدى قدرتها على نقل الحرب إلى أرض العدو..
والواقع أنه لفترة غير قصيرة عاش الإسرائيليون في الكيان العبري حالة سلم عملي واستقرار قائم رغم أن دولتهن في حالة حرب رسمية مع أربع دول محيطة بها؛ ومع نحو ٢١ دولة موجودة في إقليمها.
إن الفكرة الاستراتيجية التي صاغها “مؤسسو الكيان الإسرائيلي” قامت على معادلة أنه إذا كان وقف الحرب معناه الانسحاب من أراض، فإن الأفضل لتل أبيب الاحتفاظ بالأراضي واستمرار الحرب، ولكن شرط أن تجري هذه الحرب فوق أرض العدو وبين مجتمعات العدو؛ وبشكل يبقي المجتمع الإسرائيلي يعيش حالة الحرب من خلال متابعته لها على شاشة التلفزيون والصحف وليس على أرض الواقع.
..وبعد حرب ال ٢٠٠٦ التي تضمنت قصف صواريخ إلى داخل التجمعات السكنية الإسرائيلية، وقبل ذلك بعد الانتفاضات الفلسطينية التي تضمنت عمليات طعن ودهس وعمليات فدائية ضد المستوطنين داخل العمق الإسرائيلي؛ ولدت في إسرائيل “جبهة رابعة” هي الأخطر ، وذلك إلى جانب “الجبهة الشمالية” مع سورية ولبنان و”الجبهة الجنوبية” مع مصر و”الجبهة الشرقية” (نسبة للضفة الشرقية للنهر) مع الأردن؛ وهذه الجبهة الرابعة هي “الجبهة الداخلية” المشكلة من كل البيئة الجغرافية والديموغرافية الاقتصادية والمعنوية الإسرائيلية والقائمة مادياً ومعنوياً ليس فقط داخل فلسطين المحتلة، بل أيضاً حيث يوجد كل ما تسميه المصطلحات الصهيونية “بالشتات اليهودي والإسرائيلي عبر العالم”..
وكل ما يحدث اليوم هو أن كل الجبهات الثلاثة تشهد وقفاً لإطلاق النار ما عدا الجبهة الداخلية التي تحتدم فوقها جولات الحروب المتتالية.. ومنذ العقود الثلاثة الأخيرة تحاول القيادة الإسرائيلية إنتاج نظرية تفيد بأنه يمكن بقاء الاستقرار داخل إسرائيل مع بقاء الجبهة الداخلية بحالة حرب.. والوسيلة لتحقيق ذلك هي الاعتماد على منظومة دفاع القبة الحديدية التي تعترض الصواريخ التي تستهدف الجبهة الداخلية الإسرائيلية. الموضوعية تحتم القول أنه بنسبة معقولة نجحت القبة الحديدية بحماية الجبهة الداخلية من صواريخ غزة وأحياناً جنوب لبنان؛ الخ… ولكن الموضوعية تحتم القول أيضاً أن القبة الحديدية لم ولن تمنح المستوطن الإسرائيلي في غلاف غزة أو الجليل أو في تل أبيب الشعور بأنه يعيش سلام واستقرار أمني داخل أن دولته في حالة حرب؟!!.
وعليه فإن ما بات يسمى في إسرائيل بصاروخ رحوفوت والذي اختلى نتنياهو بوزير حربه لتفكيك أسراره السياسية والنفسية والمعنوية وليس العسكرية؛ إنما هو أوضح رسالة توضح بأن ما تحتاجه إسرائيل هو قبة حديدية سياسية ضد تطرف أقصى اليمين الصهيوني، وليس قبة حديدية عسكرية ضد صواريخ رحوفوت!!!.