شيخة غانم الكبيسي:
اقلب الصفحة
لسنا خارقين للطبيعة، نعترف بقدراتنا المحدودة وتقلباتنا المزاجية المزعجة، نتباهى بتعدد الأدوار وحمل الأثقال، بالرغم من هشاشتنا نتحدى أنفسنا ونقودها لمعتقلات غوانتنامو السرية لتهذيبها وتعذيبها تأكيداً للصمود بوجه مفترقات الطرق ومطباته الحديدية، بضمان ـ طويل الأمدـ للصدمات والكوارث الحسية، مُتشبثين بقراراتنا البالية، نحارب من أجل أفكار لم تُخلق لنا وندافع عن أشخاص لن يكونوا معنا بعد شهور أو سنوات، كأن جلودنا لم تكتف من دبغها المتكرر، كاشفة آثارها المنحوتة التي نرمقها بوقوفنا أمام مرآة العمر متطأطئين، تخذلنا شجاعتنا، ويخوننا كبرياؤنا أمام وسمّ القسوة الجارح والنظرات المُستنكرة بجهالة ما خلفته في أرواحنا تلك التجارب السامة.
دعني أوضح الأمر ببساطة أكثر ليتقبلها جسدك المُنهك، فعندما تضع يدك بالماء الدافئ تسري بأوصالك رجفة بحّار عاشق لأمواج الغموض والتناقضات، فتغوص بأعماقه متلذذاً بارتفاع سخونته التدريجية، المتناغمة مع انسجتك وأوعيتك الدموية، إلى ان يبلغ درجات عالية من الحرارة يرفضها جهازك العصبي وينبذها عقلك بتخطيها سقف مقاومته الطبيعية، حينها يرسل برج المراقبة صافراته الفورية التحذيرية، لتنفض يدك سريعاً مبتعداً عن مصادر الألم وكارهاً لها، متجاوزاً الآلام الحارقة والكدمات المشوهة التي خلفتها طول المدة الزمنية التي قررت بها الصمود اختباراً لقدراتك.
لتنظم للكثيرين ممن تمكنوا من تجاوز الآمهم للنهوض من جديد، فلم يتقبلوا فكرة كونهم دُمية يتم تدليلها بوقت الفراغ ثم تُرمى بمنتصف الطريق لتدوسها عجلات المارة لأنها لم تعد ضمن أولوياتهم، خرجوا بمسيرات فكرية للمطالبة بعدم معاملتهم كقطعة سيراميك مصقولة لوثتها أحذيتهم القذرة وطلباتهم التعجيزية حتى تآكلت أطرافها وملأت الثقوب بشرتها الناعمة فلم تعد مشاهدتها تسر ولا جدوى لوجودها، توقفوا عن تقديم التضحيات لغير مستحقيها بعد ان اكتفوا من تأمل الزمن وهو يفترس المشاعر وينثر غباره بوجوههم كهالات سود.
اعترف انه ليس من السهل حماية أنفسنا من الأذى والمشقة، فهناك أجزاء كثيرة في حياتنا لا يمكننا السيطرة عليها، إما لتمسُكنا بالكثير من المعايير والأفكار والعادات التي تثقلنا بالكرب وتستعبدنا، أو بسبب المخاوف التي تملأنا من المتغيرات ذات الدروب الوعرة، وعدم ثقتنا بأنفسنا والتقليل من قدراتها بإجبارها على إرضاء رغبات الآخرين والسماح لهم بتعريضها للتهميش والانتقاد الدائم، الذي يعوق نجاحاتنا ويطمس مواهبنا، وان كانت كلها أعذارا واهية يصب مجملها في جرة واحدة نتجرعها بالمشهد الأخير.
لتكتشف اطماعهم الاستغلالية، فكُلما أرخيت لهم حبالك ضاعفوا أثقالهم وأحكموا قبضتهم، ينظرون لتنازلاتك بسخط وجحود فلا تعنيهم تضحياتك التي تحتضنها لتدفئة كرامتك المتجمدة، تاركين جراحك تنزف بلا ضمادات، كلما شارف التئامها باغتوا تقرحاتها بذرّ الملح، ليشاهدوك تغرق مرةً تلوَّ الأخرى كما تفعل المرساة.
ولكن هناك حدودا قصوى ونقطة بآخر السطر تُنبئنا بالنهاية، علينا ان نتعلم كيف نراها لنقلب الصفحة، مودعين بقصد كل النقاط السوداء، صارمين في أولوياتنا وعلى دراية تامة بفنون التخلي المنعشة قبل أن يتم التخلي عنا.
لذا أقول لكل شخص أخفق في التخلص من هذه المرارة، أسأل ذاتك الأسئلة الدقيقة التي يمكنك الإجابة عنها بوضوح دون الرعب من الاعتراف بالحقيقة التي قد تكون جلية للجميع إلا أنت، حينها ستميز وتفرق بين أزهارك التي تزهو وتعطر نسمات صباحك وبين أكوام الفحم القبيحة القابعة عند بابك لتحجب عنك الرؤية، تنفث دخانها بين عقارب بوصلتك الحياتية لتنحرف عن مسارها