خاص الهديل:
ينقسم المتابعون لفكرة عقد حوار وطني جديد بين الأطراف اللبنانية إلى فريقين؛ الأول يعتقد أن هذا الحوار سيعقد بعد انتخاب رئيس الجمهورية برعاية إقليمية ودولية، وسيجري خارج لبنان وسيكون حواراً له منزلة أقل من اتفاق الطائف وأكثر من اتفاق الدوحة.. والواقع أن القائلين بهذه النظرية يتجاوزون حقيقة أنه لا الوضع الإقليمي ولا الوضع الدولي سيكون جاهزاً لعقد طاولة إعادة تأسيس للوضع اللبناني؛ خاصة وأن المرحلة الراهنة والمتوسطة هي مرحلة انتقالية بين حقبتين وظرفين، وليست مرحلة تأسيسية، بمعنى مرحلة نسف ما هو قائم وإعادة بنائه..
وفي هذه العجالة يمكن إعطاء أمثلة سريعة تدلل على أن الدوليين والإقليميين لن يكونوا خلال هذه الفترة بصدد إعادة تأسيس نظم سياسية لدول فاشلة في المنطقة، بل هم معنيون بوقف التصعيد العسكري والاقتتال الأهلي في هذه الدول؛ ومن ثم ترك الحل السياسي فيها معلقاً على شكل بنود غير جاهزة للحل حالياً على أجندة الدوليين والإقليميين.
وأكبر دليل على ما تقدم، هو الوضع في ليبيا الذي تم إطفاء الحرب فيها، ولكن ظلت الأزمة السياسية قائمة، وظل الشغور الدستوري على كل المستويات قائماً.. ونفس الأمر يحدث الآن في اليمن..
أما الفريق الثاني من المتابعين لمقولة الحوار الوطني، فهو يرى أن هذا الحوار سيجري في لبنان وليس خارجه، وسيكون محلياً بمساعدة خارجية.. وهذا الحوار الداخلي الوطني سوف يعقد بشكل من الأشكال قبل انتخاب رئيس الجمهورية، وليس بعد انتخابه.. بل ويعتقد هذا الفريق أنه لا يمكن انتخاب رئيس للجمهورية إلا من خلال إطلاق حوار وطني واسع بين المكونات اللبنانية يؤسس للتفاهم ليس على تغييرات جوهرية في النظام السياسي، بل على نوعية العهد الجديد ورئيس الحكومة المقبلة ومجمل برنامج عملها في المرحلة المقبلة..
..والواقع أن هذا النوع من الحوار الوطني الذي يهدف إلى إنتاج اتفاق داخلي على اسم “فخامة الرئيس” و”هوية الحكومة المقبلة ورئيسها” وذلك قبل انتخاب فخامة الرئيس؛ إنما هو تكرار طبق الأصل لتجربة “التسوية الرئاسية” التي صاحبت الاتفاق الداخلي على انتخاب الرئيس ميشال عون قبل نحو ست سنوات.
ومن يسعى لهذا النوع من الحوار الوطني الداخلي الذي يؤدي إلى تسوية رئاسية رقم ٢ ترث التسوية الرئاسية التي انهارت عام ٢٠١٩؛ هو بدرجة أساسية وأولى حزب الله الذي كان له الدور الأكبر في هندسة التسوية الرئاسية الأولى.
ويحاول الحزب اليوم عبر السعي “لتسوية رئاسية ٢” إعادة اللعبة السياسية الداخلية إلى ما قبل يوم ١٧ تشرين ٢٠١٩؛ ولكن حارة حريك تواجه تحديين إثنين أساسيين بوجه مسعاها المستجد هذا: الأول هو معارضة جبران باسيل لتوجه الحزب بأن يكون طربوش التسوية الرئاسية ٢، هو سليمان فرنجية؛ بينما الحزب يصر على اسم فرنجية؛ أولاً لأن نصر الله قطع له “الوعد الصادق” بأن يكون هو رئيس الجمهورية بعد ميشال عون؛ وثانياً لأن نبيه بري يعتبر فرنجية ضمانة له.
والواقع أن عدم موافقة جبران باسيل على سيناريو الثنائي الشيعي لتركيب تسوية رئاسية ثانية تؤدي إلى إلغاء كل مفاعيل انتفاضة ١٧ تشرين، يحرم هذه التسوية من وجود شريك مسيحي فيها، وبالتالي يصبح من الصعب إنتاجها.
أما التحدي الثاني الذي يواجه مسعى حزب الله لإنتاج “التسوية الرئاسية ٢” فهو غياب سعد الحريري عن الساحة السياسية الداخلية. وبخصوص هذه الجزئية تجدر الاشارة إلى أنه تبين الآن أكثر من أي وقت مضى، أن الحريري كان يؤدي دور التوازن الداخلي ليس فقط بين الطائفة السنية والطوائف الأخرى، بل أيضاً بين الطوائف الأخرى فيما بينها.
..وهذه الحقيقة وصلت فكرتها حالياً لكل زعماء الطوائف، من نصر الله إلى جنبلاط إلى باسيل وصولاً لسمير جعجع؛ أما بري فلم يكن بحاجة لاكتشاف هذه الحقيقة، كونه كان من المقتنعين بها منذ زمن طويل.. والفكرة الصادمة اليوم لزعماء الطوائف، هي أن جسر التواصل بين الطوائف؛ أو جسر التسويات بينها المتمثل بالحريري، غير متوفر، وهو خارج الخدمة بقرار يقال أنه بدأ إقليمياً، ولكنه أصبح اليوم أيضاً قراراً ذاتياً من سعد الحريري نفسه الذي اكتشف أنه ضمن توزع القوى الراهن، فإن وجوده في البلد لن يحرك المياه السياسية الآسنة، بقدر ما سيتم من قبل اللاعبين المحليين الذين اعتادوا الفشل، تحميله مسؤولية أو عبء النتائج المترتبة عن عدم توفر الحلول، وذلك جرياً على عادتهم كما حصل في مرات كثيرة سابقة.
إن أزمة التسوية الرئاسية الثانية، تقع في أنها من غير شريك مسيحي، وتقع أيضاً في أن قوى لبنانية عديدة لا تجد مجالاً حالياً للتسوية مع حزب الله؛ وتقع أيضاً وأيضاً في أن الركن السني الذي يتم بالعادة البناء على ثقله لرسم معادلة لإنهاء شغور الرئاسة الأولى من خلال إيجاد رئيس سني ثالث قادر على إسناد عهده، غير موجودة في المعادلة السياسية الداخلية اللبنانية الراهنة!!..