كتب عوني الكعكي:
منذ خمسينات القرن الماضي… وتحديداً مع انطلاق ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 في مصر… ومع بداية مسيرة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، تعزّز الحضور السياسي لمصر في لبنان، على كافّة المستويات السياسية والاجتماعية والأهلية. وهذا الاهتمام لم يكُن وفقاً -للعديد من المطلعين- محصوراً بالشق الرسمي السياسي بل تعدّاه حينها للجانب الاجتماعي المباشر، الأول: إنشاء جامعة بيروت العربية كأوّل جامعة تعليمية عربية تُبصر النور في لبنان، والثاني: استجلاب الأساتذة المصريين الى لبنان. ما يعبّر عن مدى الرغبة المصرية بالحضور في الداخل اللبناني.
واستمر الاهتمام ليشمل إرسال البعثات الأزهرية لمساجد لبنان. الأمر الذي جعل مصر وإلى هذا اليوم المؤثّر الأوّل في التوجّه الديني اللبناني.
وما يعزّز هذا الرأي، أنّ مصر كانت صديقة كل الأطراف اللبنانية، وحتى القوى المتخاصمة معها… وها هو الدور المصري يعاود نشاطه لبنانياً، وبعد الفراغ على المستوى السنّي، عبر دعم المؤسّسات العسكرية والوطنية، أو عبر مشاريع تنموية في كل المساحة اللبنانية.
وأعود الى الدور المصري الرائد في لبنان، إذ كانت الحكومات لا تشكّل في لبنان، إلاّ باستشارة مصر، وأذكّر حتى بتوقيع «اتفاق القاهرة» الذي أدخل المقاومة الفلسطينية الى لبنان، وما تبع ذلك من معارك حتى بينها وبين الجيش اللبناني… وإخضاع المنطقة الجنوبية من لبنان، وإقحامها في معركة، أدّت في ما بعد الى ما أدّت إليه من اجتياحات إسرائيلية.
ومع وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، عمل خليفته محمد أنور السادات على إبرام اتفاقية مع إسرائيل، إثر زيارته الكنيست وخصّص معظم عهده لاستعادة ما خسرته مصر في حرب عام 1967.
لذا أشدّد على ان الدور المصري للبنان كان لافتاً، فالعلاقات المصرية – اللبنانية كانت مميّزة… وأستطيع أن ألخص العلاقات بين لبنان ومصر منذ ثورة يوليو (تموز) الى ثلاث حقبات:
الأولى: من 1952 وحتى 1958 خلال عهد كميل شمعون.
الثانية: من 1958 حتى 1967 خلال عهد فؤاد شهاب والشهابية.
الثالثة: من 1967 الى 1970 أيام رئاسة شارل حلو.
الحقبة الأولى شهدت خصومة بين كميل شمعون وعبدالناصر وتحوّلت تدريجياً الى عداوة أوصلت لبنان الى الانقسام المسلح عام 1958 بين الناصرية والشمعونية التي تبنّت مشروع ايزنهاور و»حلف بغداد»… وانتهت هذه الأحداث بنزول «المارينز» الأميركي على الشاطئ اللبناني بعد الانقلاب الناصري في العراق، وتخوّف واشنطن من سقوط العرش في الأردن. وانتهى الفصل الأول بانتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية وإعلان مبدأ: لا غالب ولا مغلوب. وجرى تفاهم صريح في اجتماع عُقِد في خيمة على الحدود بين لبنان وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة)، تقرّر من خلاله أن يسير لبنان في خط جمال عبدالناصر العربي مقابل أن يؤيّد عبدالناصر السياسة الداخلية التي يتبعها فؤاد شهاب.
في الحقبة الثانية صارت الناصرية خط الدفاع العربي الأوّل عن نظرية الحفاظ على سيادة لبنان واستقلاله وسلامة أراضيه.
وكان الفصل الأخير لعبدالناصر ولبنان بعد نكسة 1967.. فقد أغرقت حرب النكسة الدول العربية المتاخمة للعدو الاسرائيلي، وتحوّلت أجزاء من مصر وسوريا والأردن وكامل الضفة الغربية الى أراضٍ عربية محتلة باستثناء لبنان.. ولا ننسى ان عبدالناصر تدخل مباشرة لفضّ النزاع ومنع الانقسام الخطير عبر «اتفاق القاهرة» عام 1969.
لقد كان عبدالناصر قبَيْل وفاته.. قد كسب الدولة اللبنانية والقيادات المسيحية، لأنه تفهّم جوهر الصيغة اللبنانية ودافع عن الخصوصية اللبنانية.
وبعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، جاء السادات الى حكم مصر… وفي هذه الحقبة -كما أشرت سابقاً- انشغل السادات بقضية تحرير الأراضي المصرية المحتلة من إسرائيل، فزار الكنيست وأبرم اتفاق سلام بينه وبين الكيان الصهيوني.
وبعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر أيضاً كان التدخل السوري في لبنان الذي قاده الرئيس حافظ الأسد ببراعة وحنكة، ما أحدث توازناً واضحاً في لبنان، وصار التدخل العربي في لبنان من خلال سوريا الأسد… لكنّ بشار فشل في متابعة ما بدأه والده… فأفسح المجال للتدخل الايراني الذي لا يزال مؤثراً في الحياة السياسية في لبنان.
ولن نغفل بالتأكيد الدور السعودي وتأثيره في لبنان، وبخاصة في عهد الرئيس الشهيد رفيق الحريري، واستمرّ كما نعلم مع نجله الرئيس سعد الدين الحريري الذي استطاع تأمين حوالى 80 نائباً في تكتل 14 آذار، ليصبح مؤثراً في الحياة السياسية بشكل أكيد.
[يتبع غداً]
*المقالات والآراء التي تنشر تعبّر عن رأي كاتبها*