خاص الهديل:
الشخصيات اللبنانية التي لها تواصل مع مسؤولين أميركيين سواء في عهدي الجمهوريين أو الديموقراطيين، ينقلون من واشنطن صورة للرئيس الفرنسي ماكرون غير وردية.. فواشنطن الجمهورية على أيام رونالد ترامب كانت تصف ماكرون “بالجندي المتحمس” الذي يتبرع بتنفيذ مهمات صعبة من دون أن يخطط لها جيداً، ما يجعله يصطدم دائماً بالفشل.. وكان يطيب لجماعة ترامب – كما يقول عارفون بتفكيرهم – أن يتركوا ماكرون يذهب في مهمات الفشل كي يشاهدوا فشله..
أما واشنطن الديموقراطية الحالية على أيام بايدن؛ فهي تطلق على ماكرون لقب صاحب المبادرات التي تقوم على مبدأ أو سلوك “اقتحام الأبواب المفتوحة”!! بمعنى أن ماكرون يستجمع ثقل فرنسا ويقتحم بقوة وبدون تمهيد متأني، باباً مفتوحاً، ما يجعله يقع أرضاً على وجهه؛ تماماً كملاكم من الوزن الثقيل يوجه لكمته القوية في الفراغ، فيختل توازنه، ويسقط على أرض الحلبة..
ومناسبة استعراض طبيعة النظرة الأميركية لدى الديموقراطيين والجمهوريين لشخصية الرئيس الفرنسي، تعود إلى أن ماكرون في طرحه الجديد عبر لودريان بعقد جولة استشارات في أيلول بين القوى اللبنانية لتحديد أولويات فخامة الرئيس العتيد؛ إنما يعيد إنتاج نفس مبادرته الأولى حينما جمع كل القوى السياسية في قصر الصنوبر، واتفق معهم على تحديد أولويات خارطة الإنقاذ، ولكن ما حصل حينها، هو أن القوى السياسية نسيت كل ما اتفقت عليه مع ماكرون فور صعود الأخير إلى الطائرة التي أقلته من بيروت إلى باريس.. آنذاك وصفه الأميركيون في الإدارة الجمهورية بأنه “جندي محتمس” سيحصد فشل تهوره في لبنان.
وحتى في الخارجية الفرنسية تم انتقاد ماكرون حينها، كونه تسرع بوضع رصيد الإليزيه على طاولة المقامرةمع قوى سياسية لبنانية ليس هناك ثقة بوعودها.. ومنذ ذاك الوقت نصحت الخارجية الفرنسية ماكرون بأن يتوقف عن تكثيف اتصالاته الشخصية والمباشرة بالمسؤولين اللبنانيين، وأن يتعاطى معهم بالواسطة حتى لا يستهلك إسم رئيس جمهورية فرنسا في وحول الكذب السياسي اللبناني. والتزم ماكرون لحد بعيد بهذه النصيحة بعد أن لمس بنفسه وبالتجربة مدى فداحة الخسائر المعنوية والسياسية التي لحقت بباريس، جراء ممارسته لدور الجندي المتحمس (أو الأهوج الذي لا يحسب خطواته) كما يلقبه الأميركيون الجمهوريون..
.. ولكن ماكرون بسياسته الجديدة في لبنان، كما يمارسها حالياً مبعوثه لودريان، يبدو كأنه انتقل من ممارسة دور “الجندي المتحمس” في لبنان، إلى دور “اقتحام الأبواب المفتوحة”.. والمقصود هنا هو أن ماكرون كلف شخصية لديها وزنها في فرنسا بأن تستعمل كل رصيدها الكبير وتقوم باقتحام باب الأزمة اللبنانية الموصد.. وما حصل هو أن القوى السياسية فتحت الباب أمام لودريان؛ الأمر الذي جعل مبادرته تقتحم الفراغ، والأمر الذي سيجعل لودريان في أيلول المقبل يصل الى النتيجة الكارثية ذاتها التي وصل إليها ماكرون بعد مبادرته الأولى التي جمع خلالها القوى السياسية اللبنانية في قصر الصنوبر..
قد يقول البعض أنه من المبكر وصف مبادرة لودريان بأنها تنتمي لفصيلة “إقتحام الأبواب المفتوحة”، أو أنها تمثل تكراراً مملاً لمغامرات “الجندي المتحمس” في لبنان.. ولكن ما يدعو للاستنتاج بشكل مبكر أن مبادرة لودريان ليست إلا امتداداً لفشل مبادرات رئيسه ماكرون اللبنانية، هو التالي:
أولاً- إن بدعة استخدام مصطلح “التشاور” مكان مصطلح “الحوار”، تشبه القيام باعتماد منهجية “فسر الماء بعد الجهد بالماء” لتجاوز تعقيدات عقد حوار في لبنان.. وإذا كانت الجهة التي أطلقت هذه الفكرة هي الخماسية مجتمعة؛ فهذا يؤشر إلى أن الدول الكبيرة في الخماسية قررت في هذا الوقت الضائع، إعطاء الجندي الفرنسي المتحمس (أو المتهور؛ أي موفد ماكرون) بندقية غير صالحة للعمل، وأرسلته إلى الجبهة السياسية اللبنانية الساخنة.. أما إذا كانت فكرة استبدال مصطلح “الحوار” بمصطلح “التشاور” هي فكرة لودريان ورئيسه ماكرون؛ فهذا يعني أن الإليزيه مستمرة في إنتاج مشاهد “اقتحام الأبواب المفتوحة” في لبنان..
في الواقع أنه لا يوجد جهة واحدة في لبنان مقتنعة بأن هناك فرقاً بين مصطلح “الحوار” ومصطلح “التشاور”.. وعليه فإن الأسباب التي أدت لفشل عقد الحوار، ستكون هي ذاتها الأسباب التي ستؤدي إلى فشل التشاور في أيلول، وذلك في حال صدقت الأطراف السياسية بوعدها للودريان وجاءت إلى طاولة التشاور..
.. وأكثر من ذلك، فإن التنظير لفكرة أنه بمجرد الاتفاق على مهمات الرئيس، فإنه يصبح سهلاً انتخابه من قبل القوى السياسية اللبنانية، هي فكرة متحمسة؛ كون طبيعة الخلافات والصراعات في لبنان، ليست كلها سياسية، بل فيها كمّ كبير من الخلفيات الشخصية والمصلحية الضيقة والإقليمية.. ثم ان من يتفق في العمق على برنامج العهد الرئاسي الجديد، ليس اللبنانيون، بل الجهات الخارجية التي تقف وراءهم؛ وعليه سيكون حرياً بلودريان الدعوة إلى “طاولة تشاور إقليمية – دولية”، تعقد في مكان ما خارج لبنان..
ثانياً- سواء قبل إطلاق فكرة عقد طاولة التشاور أو بعدها، فإن أزمة الشغور الرئاسي لديها عنوان واضح، هو معارضة المسيحيين لترشيح فرنجية، ومعارضة المعارضة المسيحية لأن يتم ترشيح فخامة الرئيس الماروني من حارة حريك.. وعليه فإن حل الازمة لا تبدأ من نقطة عقد تشاور، بل تبدأ من نقطة قدرة باريس على الحصول على أحد تعهدين إثنين: الأول من حزب الله يقول أنه يسحب ترشيح فرنجية ويقبل بما يريده المسيحيون؛ وأما الثاني فهو حصول باريس على تعهد ثان من المسيحيين يقول أنهم يقبلون بفرنجية رئيساً..
والواقع أنه وفق منطق الأزمة اللبنانية وظروف صراعاتها؛ فإنه لا يوجد “حل ثالث” ولا “إسم ثالث” ولا تسوية لإنهاء الشغور الرئاسي، إلا من خلال ملء الشغور على مستوى عدم وجود مبادرة دولية إقليمية تقتحم باب الأزمة اللبنانية الموصد، وليس باب المناورة اللبنانية المفتوح.