كتب ساطع نور الدين في المدن:
الأعوام الثلاثون التي أمضاها رياض سلامة في حاكمية مصرف لبنان، بإجماع نادر من أربعة عهود رئاسية، لم تقدم دليلاً على مهارة أو حنكة أو حتى كفاءة. الرؤساء الأربعة لم يكونوا مقتنعين بالرجل ولا بنباهته ولا حتى بحسه السليم، لكنهم كانوا فقط واثقين من أنه سيكون موظفاً مطيعاً، طيّعاً، بلا موقف ولا رأي، لا تراوده أحلام الوصول إلى رئاسة الجمهورية سوى مرة واحدة كل ست سنوات، عندما كان ينتظر أن يرنّ هاتفه باتصال يدعوه إلى توضيب حقائبه للإقامة في قصر بعبدا.
وبدلاً من هذا الاتصال تلقى سلامة استدعاءات للمثول أمام القضاء الفرنسي، وتالياً الأوروبي، أو أمام القضاء اللبناني، في جلسات تحقيق مطولة أثبتت حتى الآن أن الرجل، الذي لم يشعر بالمهانة ولا بالحرج، والذي لم يبد –حتى الآن على الأقل– أي استعداد للاعتذار أو طلب الغفران، بل لم يعترف حتى اللحظة بأنه ارتكب أي خطأ طوال العقود الثلاثة الماضية، من توظيفه في المنصب المالي- التقني الأرفع للدولة اللبنانية. ما زال مصراً حتى الآن على أنه لم يكن صانع سياسات، وهذا صحيح إلى حد بعيد، لكنه، لم يكن أبداً، محروماً من أي دور تنفيذي.. إجتهد بين الحين والآخر، حتى ضاعت الليرة والودائع والأرصدة، ولم يبق سوى الذهب!
في أعوامه الثلاثين التي ختمت بالأمس بالشمع الأحمر، لم يراكم سلامة سوى تجربة شراء المودع والمستهلك اللبناني وتشجيعه على العيش فوق إمكاناته المالية. وهي التجربة التي انتهت أخيراً إلى سقوط جميع المودعين الصغار والمتوسطي الحال تحت خط الفقر. وهو جوهر الفلسفة السياسية-الاقتصادية التي اعتمدت منذ انتهاء الحرب الأهلية، بحيث يتم شراء وقف إطلاق النار من المتحاربين اللبنانيين وتشجيعهم على إطلاق برامجهم الحياتية السلمية، الموازية نسبياً للمتاريس والحواجز الأمنية.
لم يثبت رياض سلامة يوماً أنه تجاوز وظيفته الأولى كمضارب في مؤسسة ميريل لينش، التي لا يمكن استلهامها في إدارة مالية دولة عصابات ومافيات الحرب الأهلية، تمتص دماء عامة الناس عندما تعجز عن امتصاص القطاع الخاص، وتختار المؤسسات والتعيينات التي لا تصلح إلا لهذه المهمة فقط لا غير.. من دون أي اعتبار لحاكم مصرف لبنان الذي أمضى سنواته الثلاثين في المنصب، وهو يجمع الجوائز والمكافآت العربية والعالمية التي لم يجر سحبها منه، مع أنه الحاكم الذي لم يحكم، والمحافظ (حسب التعريف العالمي للمنصب) الذي لم يحافظ سوى على مظهره، وعلى رصيد نسائي يحسد عليه فعلاً، سيما وانه راكم معظمه في عز الأزمة التي لم تكن تسمح لذكور لبنان كافة بأي غراميات أو مغامرات!
ولعل هذا الرصيد هو الوحيد الذي يشفع له ويحصنه في تقاعده، الذي يبدو أنه لن يواجه خلاله خطراً جدياً بالكشف عن مصدر بقية أرصدته وحركاتها المشبوهة، لا أمام القضاء اللبناني ولا الفرنسي أو الأوروبي.. كما لن يواجه تهديداً جدياً من رموز الطبقة السياسية التي استخدمته وحوّلته إلى دمية أو إلى ألعوبة (لا إلى كبش فداء، حسب تعبيره) من دون أن يوحي يوما أنه سيفضح أحداً من هؤلاء وسيعلن أسماءهم، أو على الأقل أرقام تحويلاتهم المالية إلى الخارج، منذ أربع سنوات وحتى اليوم. هو لا يريد أن يكون شهيد المال والسياسة والأمن، الذي لا يبكي عليه أحد، ولا أن يكون “الشهيد الحي” الذي يمكن أن يُبكي الجميع إذا شاء القدر.
يمضي الرجل الذي تتكثف فيه نهايات حقبة ثلاثينية مضطربة، نحو الظل لا أكثر. لا يمكن تضخيم دوره كدليل على فشل ذريع لـ”نظام” تشكّل على عجل بعد الحرب الأهلية. هذا النظام ما زال يعرج ويهوي ويقوم.. ولم يكن رياض سلامة سوى موظف صغير عديم الكفاءة، عند طبقة سياسية عديمة الحكمة.. تتطلع اليوم إلى مدِّ يدها على الذهب.