خاص الهديل:
في الوقت الذي كان فيه مجلس الأمن يصوت على قرار الهدن الإنسانية في غزة ويدعو لاحترام حياة المدنيين وقوانين الحرب؛ كانت الدبابات الإسرائيلية تقتحم المدخل الجنوبي لمستشفى الشفاء، وتمعن بترهيب وقتل نزلائه المرضى والطواقم الطبية.. وشكل هذا التزامن بين الحدثين أقوى إشارة إلى صحة ما قاله المندوب الروسي في مجلس الأمن حول أنه حتى لو قرر مجلس الأمن إنشاء هدن إنسانية في غزة، فمن يضمن أن إسرائيل ستلتزم بها، وكيف يمكن تنفيذها؟؟.
.. وقبل ساعات قليلة من التئام مجلس الأمن، قال نتنياهو لجنود إسرائيليين في غلاف قطاع غزة التالي: قالوا أننا لن ندخل في معركة برية في غزة؛ ولقد دخلناها؛ وقالوا لن نصل إلى ضواحي مدينة غزة ولكننا وصلنا؛ وقالوا أننا لن نقتحم مستشفى الشفاء، ولكننا اقتحمناها(!!).
والواقع أن كلام نتنياهو هذا، ربما يعتبر أقرب تفسير يمكن الأخذ به، لإيضاح سبب إصراره على إرتكاب سابقة جريمة اقتحام مستشفى عسكرياً؟؟.
يريد نتنياهو من ارتكاب سابقة قيام جيش باقتحام مستشفى، القول للجيش الإسرائيلي وللمستوطنين أن إسرائيل قادرة على فعل أي شيء للثأر لنفسها وليس لديها أية محرمات؛ ويريد القول لهم أن أمن إسرائيل لا تحول دون تحقيقه وفرضه، حتى أكثر القيم التي تدافع عنها البشرية..
بمعنى آخر، نتنياهو يريد إيصال فكرة أساسية للمجتمع الصهيوني، تقول أنه إذا كان بن غوريون هو قائد حرب قيام إسرائيل (حرب ١٩٤٨)؛ وإذا كان موشي ديان هو قائد إرساء فكرة أن “جيش إسرائيل لا يقهر” (حرب الـ١٩٦٧)، وإذا كان إرييل شارون هو قائد “احتلال العواصم العربية” (١٩٨٣)، فإن نتنياهو هو أقوى زعيم إسرائيلي قادر على رد الاعتبار ليس فقط “لهيبة” الأمن الإسرائيلي، بل القادر على كسر كل المحرمات الدولية والإنسانية في الداخل وفي الإقليم وفي العالم، وجعل أمن إسرائيل له قدسية، ويحظى بمنزله تفوق كل اعتبار أو قيمة أو محرمات.
وضمن السعي لتأكيد هذا المفهوم، يلاحظ أنه لم تدم مفعول الرواية الإسرائيلية عن سبب اقتحام الجيش الإسرائيلي لمستشفى الشفاء، سوى ساعات قليلة، ومن ثم انكشف زيفها، وظهر واضحاً أن نتنياهو لم يبذل أي جهد لافت من أجل ترويج هذه المزاعم، بل بدل ذلك قرر إبراز التفاخر بأنه اقتحم عسكرياً مستشفى الشفاء، رغم أن العالم كله حاول ثنيه عن فعل ذلك!!.
وهذا الجانب هو الأساس في حرب نتنياهو على مستشفى الشفاء، ذلك أن معركة نتنياهو في جزء كبير من خلفياتها، موجهة نحو إبراز صورته ككقائد نجح في الاستجابة لتداعيات هزيمة ٧ أكتوبر؛ ونجح في قلب الانطباع عنها داخل الوعي الإسرائيلي.. فبمقابل أن ٧ أكتوبر أوحت مشاهدها بأن المستوطن يهرب من الأرض التي احتلها باتجاه اللامكان؛ فإن نتنياهو أصر على إبراز مشاهد تظهر أن الفلسطيني يهرب من بيته في غزة باتجاه اللأمان.. وبمقابل أن الإسرائيلي ظهر في ٧ أكتوبر أنه صيد هين على مقاتلي حماس؛ فإن نتنياهو يريد عكس هذه الصورة ليظهر أن الفلسطيني هو ضحية سهلة أمام الجيش الإسرائيلي..
يعمد نتنياهو بكل جهده للنجاح بقلب صورة ٧ أكتوبر داخل الوعي الإسرائيلي، ونقلها من حيز أنها تؤكد أن المستوطن مهما طال الوقت، فهو غير آمن فوق الأرض التي يحتلها؛ لتصبح لها معنى أن الفلسطيني مهما قاوم الاحتلال، فهو غير آمن وغير مستقر في بيته وفوق ما تبقى له من أرضه.
..وبالنسبة لنتنياهو، تقع أهداف معركته الاستراتيجية اليوم في تحقيق ثلاثة أهداف، يعتقد أنها ستجلب له صورة النصر:
الهدف الأول هو قلب صورة ٧ أكتوبر داخل الوعي الإسرائيلي.. والمقصود هنا هو الإيحاء بأن الفلسطيني هو المهدد بالهجرة وبالنكبة الثانية وبالقتل الذي يطال حتى المرضى، وليس المستوطن الإسرائيلي الذي عليه ان يثق بمستقبله فوق الأرض التي يحتلها..
الهدف الثاني هو إقناع مستوطني غلاف غزة بالعودة إلى مستوطناتهم في اليوم التالي لوقف إطلاق النار؟؟. وفي حال انتهت الحرب ورفض مستوطنو غلاف غزة العودة لمستوطناتهم، فمعنى ذلك أن ٧ أكتوبر الفلسطيني أنجز نصراً استراتيجياً في حرب الصراع المحتدم تحت سماء السؤال الوجودي بين الإسرائيلي والفلسطيني والمتعلق بـ: لمن المستقبل في فلسطين؟؟.
الهدف الثالث هو عدم وقف النار مع حماس بل إرساء وقفات للنار معها؛ بمعنى عدم اعتراف تل أبيب بأن ٧ أكتوبر انتهى على عدم نصر كامل ضد رمزيته الفلسطينية!!.
ومشكلة نتنياهو هنا تكمن في أنه غير قادر على أخذ صورة تقنع المستوطنين بأن إسرائيل انتصرت في حرب ٧ أكتوبر الفلسطيني؛ ولذلك فهو يبحث عن فكرة لإنهاء القتال توحي بأن الحرب لا تزال مستمرة ضد حماس، وبالأساس ضد المقاومة في غزة..
ويدرك نتنياهو في هذا المجال أنه يبحث عن سراب؛ كون عدوه القوي في غزة ليس حماس رغم شدة بأسها؛ بل عدوه الحقيقي هو تمسك غزة بالمقاومة سواء كان عنوان هذه المقاومة فتح أو حماس أو أي مسمى آخر. وللحظات يفكر نتنياهو بتهجير الغزاويين نحو سيناء، ولكن الفكرة تصطدم برفض العالم لها، وليس فقط مصر، كون تهجير الفلسطينيين خلال النكبة الأولى لم يؤد إلى إنهاء القضية الفلسطينية بل إلى جعلها قضية تنتج حروب إقليمية متتالية.. ولذلك فإن قيام نتنياهو بخطوات تهدف إلى تحدي إرادة العالم، كما يفعل بموضوع مستشفى الشفاء، إنما الهدف منها هو إجراء تمرين من جهته، وأيضاً تنفيذ سوابق تؤدي إلى تدجين العالم مع فكرة أنه يحق لإسرائيل ارتكاب نكبة ثانية بحق فلسطيني غزة والضفة، وذلك انطلاقاً من أنه ليس هناك ما هو غير مسموح أن تقوم به إسرائيل في إطار حقها بالدفاع عن نفسها، نظراً لكون حق إسرائيل بالدفاع عن النفس له معنى حقوقي وله امتياز عالمي مختلف عن حق كل الدول الأخرى بالدفاع عن نفسها.. والفكرة هنا تتمثل بقدسية إضافية مكتسبة نالتها إسرائيل نتيجة المظلومية التي لحقت باليهود في الماضي، والتي اعترف كل العالم بها، وأقر بمسؤوليته عنها وبواجبه بتعويض اليهود عنها، وذلك بجعل إدانة اللاسامية والدفاع عن اسرائيل، هما قيمتان متلازمتان، ويشكلان قيمة يومية وثقافة لحظوية معاشة في أدبيات وحياة المجتمع الدولي.