خاص الهديل:
بعد دخول المواجهات بين حزب الله والجيش الإسرائيلي على “جبهة جنوب لبنان” حسب التسمية اللبنانية، و”الجبهة الشمالية” حسب التسمية الإسرائيلية، شهرها الثالث فإنه تبرز عدة ملاحظات بعضها لا يزال يتبلور على شكل أسئلة وبعضها بات له شكل المسلّمات أو الحقائق..
وتبقى المسلّمة الأساسية في هذا المجال هي المتعلقة بتطور هام حدث فوق المنطقة الفلسطينية المحتلة المقابلة للحدود اللبنانية. والمقصود هنا هو أنه بمثلما أن “منطقة غلاف غزة” تحولت إلى “منطقة ضغط اجتماعية وسياسية” على حكومة إسرائيل، تارة تحملها على شن الحرب على غزة؛ وتارة تحملها على تأمين الهدوء مع غزة؛ فإن المنطقة الحدودية الإسرائيلية المقابلة للحدود اللبنانية، تحولت إلى ما يشبه “منطقة غلاف جنوب لبنان” (أو بالأصح منطقة “غلاف جنوب الليطاني”)؛ وهذه المنطقة الأخيرة انتقلت إليها بخصوص تأثيرها على القرار الحكومي الإسرائيلي تجاه لبنان، ذات مواصفات تأثيرات منطقة مستوطنات غلاف غزة على قرارات الحكومة تجاه قطاع غزة.
لقد أسفرت مواجهات الجبهة الشمالية أو مواجهات جبهة جنوب لبنان؛ عن تهجير نحو ٣٠٠ ألف مستوطن من المنطقة التي بات يصح عليها تسمية “غلاف جنوب لبنان”.. وهؤلاء يقيمون اليوم في فنادق ومنازل مدفوعة الأجر من قبل الحكومة الإسرائيلية، وذلك في مناطق تبعد ٩ كلم وما فوق عن خط حدود لبنان مع إسرائيل..
ويواجه كابينيت الحرب في إسرائيل مع نازحي المنطقة الإسرائيلية الحدودية مع لبنان مشكلة مزدوجة؛ الأولى أن هجرتهم تحمّل الاقتصاد الإسرائيلي كلفة اقتصادية ليست صغيرة.. والثانية أن هؤلاء المستوطنون الـ٣٠٠ ألف، تحولوا إلى “قضية أمنية”، ومن ثم يتحولون اليوم إلى “قضية سياسية”، وأيضاً إلى قضية “أمن قومي عليا”.
.. أما بخصوص مسألة تحولهم لـ”قضية أمنية”، فيعود ذلك لكون ميدان المواجهة الذي يلتزم بالحرب فوقه كل من حزب الله والجيش الإسرائيلي، هو ميدان بعمق ٥ كلم إلى داخل الأراضي الكائنة على ضفتي الحدود اللبنانية الإسرائيلية، ويصل عمق هذا الميدان خلال لحظات اشتداد تبادل القصف بين الطرفين، إلى عمق ٩ كلم. وهذا الوضع نتج عنه نشوء ميدان حرب “متفق” على مساحته بين الطرفين، وهو من ٥ إلى ٩ كلم داخل عمق الأراضي اللبنانية الحدودية مع فلسطين المحتلة، ومن ٥ إلى ٩ كلم داخل عمق “الأراضي الإسرائيلية” الحدودية مع لبنان. وفوق هاتين المنطقتين العسكريتين لم يعد هناك حياة مدنية؛ حيث انتقل الأهالي اللبنانيون الذين يقيمون في منطقة الـ٩ كلم الحدودية مع إسرائيل إلى مناطق في العمق الجنوبي أو إلى بيروت، ويتجاوز عدد هؤلاء الـ١٥٠ ألف نسمة؛ وبمقابلهم انتقل الـ٣٠٠ ألف مستوطن المقيمين في منطقة الـ٩ كلم الإسرائيلية للإقامة في وسط إسرائيل.
وشيئاً فشيئاً تصبح منطقة الـ٩ كلم الحدودية مع لبنان الواقعة في شمال إسرائيل، لها أوجه تشابه كبيرة مع منطقة غلاف غزة، ما يجعل تسميتها مجازاً بمنطقة “غلاف جنوب الليطاني”، هو أمر صحيح لحد بعيد: فمن جهة يطالب “مستوطنو غلاف غزة” حكومة نتنياهو بضمانات أمنية لهم بوجه تواجد حماس في قطاع غزة حتى يوافقوا على العودة إلى مستوطناتهم؛ وأيضاً يطالب اليوم مستوطنو “منطقة غلاف جنوب الليطاني” حكومة نتنياهو بضمانات أمنية بوجه وجود حزب الله في منطقة جنوب الليطاني، كي يقبلوا بالعودة لمستوطناتهم في شمال إسرائيل. ويلاحظ أن مطالبهم تقع في شرطين: إما القضاء على حزب الله، أو أقله “طرد حزب الله من منطقة جنوب الليطاني” التي هي منطقة القرار ١٧٠١.
وبمثلما أن غالانت ونتياهو وغانتس مختلفون فيما بينهم على الكثير من شؤون الحرب والسلم والسياسة، إلا أنهم متفقون على هدف تحقيق الأمن لمستوطني غلاف غزة وأيضاً على تحقيق ما يسمونه بأمن إسرائيل ضد حماس عن طريق السلم أو الحرب؛ فهم أيضاً متفقون على تحقيق الأمن لمستوطني الشمال ضد حزب الله سلماً أو حرباً..
وما تقدم يعني أمراً هاماً، وهو أن مسألة الحرب مع حزب الله أصبحت “قضية رأي عام إسرائيلي أمنية”، تماماً كما أن قضية الحرب مع غزة أو مع الضفة الغربية هي “قضية رأي عام أمني وإيديولوجي إسرائيلي”.
وبهذا المعنى فإن ما فعلته مواجهات جنوب لبنان التي أراد الحزب من خلالها “دعم صمود غزة”؛ هي أنها جعلت إسرائيل معنية بتحقيق هدف “دعم صمود مستوطنات غلاف جنوب الليطاني”..
وجوهر القضية المستجدة هذه تكمن في أن مطالب مستوطني “غلاف جنوب الليطاني”، ومطالب مستوطني “غلاف غزة” لها بُعد يطال بالضرر جوهر وعلة وجود دولة إسرائيل، أي الاستيطان وديمومته وحمايته. ولذلك يتم النظر في اسرائيل إلى مطلب حماية استقرار المستوطنين في مستوطناتهم الحدودية خاصة، على أنه مطلب له صفة الأمن القومي أو المصالح الأمنية الاستراتيجية العليا للدولة العبرية.
.. وحالياً يقول نتنياهو- وهو في كلامه هذا لا يعبر فقط عن اليمين بل عن كل الطيف السياسي الإسرائيلي – أن المطلوب لإعادة الطمأنينة لمستوطني غلاف غزة، إقامة “غلاف أمني” يقابله داخل قطاع غزة؛ ويكون منزوعاً من سلاح حماس، ويقوم الجيش الإسرائيلي بحراسته، وليس أي طرف دولي أو عربي.. وعلى المقلب الثاني بدأ نتنياهو يقول أيضاً أن المطلوب الاستجابة لمطالب مستوطني الشمال (أي مطالب مستوطني غلاف جنوب الليطاني)، وذلك من خلال طرد حزب الله من منطقة جنوب الليطاني..
وقياساً على تجربة غزة؛ فإنه لا يستبعد أن يطور نتنياهو لاحقاً شعاره هذا بالقول أنه يجب تحويل منطقة جنوب الليطاني إلى حزام أمني تقوم إسرائيل وحدها بحراسته، وليس أي طرف آخر، حتى لو كان هذا الطرف الأمم المتحدة الذي تتهم تل أبيب أمينها العام باللاسامية.
والواقع أن ما يحدث منذ ٨ أكتوبر حتى الآن، هو أن لبنان يلتحق “بنتائج حرب غزة” أكثر مما هو يساند مسار حرب غزة.. وهذا الأمر هو الذي يدعو نتنياهو ليصف جنوب لبنان بمدينة غزة، ويصف بيروت بخان يونس، فيما جبهة المواجهات في جنوب لبنان وعلى الجبهة الشمالية، تدور عسكرياً فوق ميدان الـ٩ كلم، بينما هي سياسياً واستراتيجياً تؤسس لرأي عام داخل إسرائيل لديه مصلحة عدوانية بربط مسار الحرب على حماس ومصير غزة، بمسار الحرب على لبنان ومصير منطقة جنوب الليطاني وصولاً إلى جعل مستقبل بيروت صنواً لمستقبل خان يونس.