خاص الهديل:
على مدى تاريخ لبنان المتسم في ذات الوقت بالقلق والاضطراب وطفرات الإزدهار، إستمر الجيش اللبناني يؤدي دور المؤسسة الوطنية الجامعة، العابرة للطوائف، رغم أنه في كنه الأمور المتصلة به. يعتبر الجيش ضمانة للمسيحيين، ومساحة تفاعل وطني مع السنة الذين يشكلون خزانه البشري (عكار)، ونقطة جذب للبعد الكياني الذي يتسم به تاريخياً شيعة لبنان، والذي كان السيد موسى الصدر عبّر عنه خلال فترة ظهوره في لبنان.
ولم تستطع طائفة أن تجعل الجيش على قياسها، بل نجح الجيش ليس عن سابق تصميم، بل بفعل واقع حاله، في جعل نفسه سلة لنكهات الطوائف جميعها.
وعلى هذا، فإن ما يحدث اليوم بخصوص إحتمال حصول أزمة شغور في قيادة الجيش، لا يمكن اعتباره أزمة تخص الموارنة دون الشيعة أو السنة أو الدروز، أو تخص المسيحيين دون المسلمين؛ بل هي أزمة تكتسب خصوصيتها من خصوصية دور الجيش داخل الوطن، وداخل تعبير الطوائف فيه، الخ..
وجوهر القصة هنا تتوزع بين ثلاثة اتجاهات أو مستويات:
المستوى الأولى على صلة بصلاحيات رئيس الجمهورية، حيث أن قائد الجيش يعينه فخامة الرئيس؛ وعليه فإنه من الطبيعي أن تحترم كل القوى السياسية هذه الصلاحية، وأن تؤجل تسريح قائد الجيش إلى حين يتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية كي يبادر الأخير إلى تعيين قائد جيش جديد. ويراد من هذا الإجراء إظهار أن كل الأحزاب، وما تمثل من طوائف، ومن رغبة بالتشارك الوطني، إنما تحرص على عدم المس بواحدة من أهم صلاحيات فخامة الرئيس خلال فترة شغور موقعه؛ ومن هنا يكون القرار الصائب بأن يتم ترك الأمور في رأس قيادة الجيش كما عينه رئيس الجمهورية السابق وعدم تغييره إلا على يد رئيس الجمهورية العتيد.
.. وبهذا المعنى لا يمكن القول أن الحكومة أو البرلمان أو كلاهما عقدا صفقة لسد فراغ قائد الجيش الذي عينه رئيس الجمهورية السابق؛ بل القرار الميثاقي الذي يحفظ تقاليد التوازن الطائفي، هو ترك موقع قائد الجيش كما هو، حتى يأتي فخامة الرئيس الخلف ويعين قائداً مكان القائد الذي عينه فخامة الرئيس السلف..
وضمن هذا المستوى، فإن قضية تأجيل تسريح العماد جوزاف عون لا تنطلق من إسمه ومن وضعه؛ بل تنطلق من صلة موقع قائد الجيش بصلاحيات فخامة الرئيس، ومن الفكرة التي تقول بها اليوم أغلبية المسيحيين، وهي ترك بصمة فخامة الرئيس السابق في نطاق صلاحيته الخاصة بتعيين قائد الجيش إلى الرئيس الخلف كي يستبدلها ببصمته.
المستوى الثاني على صلة بإسم العماد جوزاف عون: فهذا الرجل لم يطلب من أية جهة تأجيل تسريحه، ولم يطلب من أية جهة ترشيحه لرئاسة الجمهورية؛ وعليه فإن كلاً من جبران باسيل والياس بو صعب يخطأان عندما يعارضان تأجيل التسريح، لأنهما بذلك يوافقان على أن يتم مد اليد على إحدى أبرز صلاحيات رئيس الجمهورية؛ وهما يفعلان ذلك فقط لأنهما ضد العماد جوزاف عون بشكل شخصي، ولأسباب تتعلق بطموحاتهما الضيقة.. مرة أخرى يجدر التذكير هنا أن العماد جوزاف عون لم يطلب تأجيل تسريحه من أية جهة؛ ولكن المستويات الدينية والسياسية المسيحية هي التي طلبت ذلك، لأنها تعتقد وتؤمن بأن اعتماد مسار تأجيل تسريح العماد جوزاف عون ريثما يتم انتخاب فخامة الرئيس العتيد كي يقوم الأخير بتعيين قائد جيش جديد وفق صلاحياته، إنما هو مسار يحافظ على صلاحيات رئاسة الجمهورية في خلال غياب الرئيس بسبب الشعور الرئاسي الناتج عن تعطيل الانتخابات لأسباب سياسية وليس وطنية.. وأنه إذا كان الموقع الرئاسي الأول يستطيع أن ينتظر بنظر البعض فإن موقع قائد الجيش يستطيع أن يستمر كما هو لحين أن يأتي رئيس جديد ويقوم هو وحده بتعيينه..
أمس قال الياس بو صعب أنه لا داعي لتأجيل تسريح قائد الجيش، تحت عنوان بقائه في موقعه ريثما يتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ورأى بو صعب أنه يمكن الآن إنهاء ولاية قائد الحيش، وعندما يتم انتخاب رئيس جديد يقوم الأخير بذات اللحظة بتعيين قائد جديد للجيش..
يفوت بو صعب هنا أن المسألة لا ينظر إليها ببساطة، وكأن صلاحيات رئيس الجمهورية يمكن إعطائها اجازة، أو يمكن اعتبار أنها تمر بمرحلة انتقالية.. يجب تذكير بو صعب بأن صلاحيات فخامة الرئيس لا تتعرض للشغور أو للتعليق حتى لو كان موقع الرئاسة الأولى شاغراً.. فالصلاحيات تبقى، وهي ليست موسمية ولا هي قابلة للتعليق ولو للحظة واحدة..
ويجدر أيضاً تذكير بو صعب أن صلاحيات فخامة الرئيس لا تمس حتى لو كان منصبه شاغراً، خاصة إن كان سبب هذا الشغور حروب سياسية ونتيجة لحدوث هيمنة وسيادة ظرف عدم التوازن الداخلي.. ومرة أخرى لا يمكن التسليم بمنطق بو صعب الذي يريد منح صلاحيات فخامة الرئيس إجازة لبعض الوقت، إلا إذا كان من يطلب ذلك يريد شراء وقت الشغور الرئاسي لتسويق سوابق تلغي مع تكرارها صلاحيات فخامة الرئيس تجاه أكثر من ملف، وأبرزها ملف منصب قائد الجيش.
المستوى الثالث يتصل بالجيش نفسه؛ وهنا يجدر القول أنه لا يمكن إهانة الجيش عبر جعل مستقبل الأمرة فيه محل تحديات سياسية وشخصية، وجعل كل ناصيتها مربوطة بجهة سياسية مستأثرة.
العقل والمنطق يقول أنه يجب إبعاد الأمرة في الجيش عن التجاذب السياسي وعن السجال السياسي؛ فهذه الأمرة هي شرف وطني، ومن يقرر بها فقط هو رئيس جمهورية البلاد. وإعطاؤه هذه الصلاحية ليست أمراً اعتباطياً بل لكونه هو الوحيد بين الرؤساء الثلاثة الذي أقسم اليمين المعظم على حماية الدستور وهو الوحيد الذي له موقع الحكم وليس الطرف في الشؤون الداخلية..
.. ولأنه يتمتع بكل هذه المزايا الوطنية؛ يحق لفخامته وحده التعيين في مركز مسؤول عن أمن البلد واستقراره وحمايته وهو مركز قائد الجيش.. وعليه فإن هناك موجبات وطنية عليا تحتم أن تترك لرئيس الجمهورية صلاحية تعيين قائد جيش، ويجب أن يترك له لوحده صلاحية استبدال قائد جيش بآخر؛ وطالما أن موقع فخامة الرئيس شاغراً، فلتترك الأمور على مستوى إمرة الجيش كما تركها فخامة الرئيس السابق بانتظار فخامة الرئيس العتيد..