خاص الهديل:
بقلم: ناصر شرارة
واكب البيت الأبيض ليلة أمس تنفيذ أوامره بشن حملة قصف عسكري لمواقع في سورية والعراق، بإطلاقه حملة “قصف إيضاحي سياسي”، حاول من خلاله بايدن إظهار “السقف السياسي” الذي يريده لهذا الرد العسكري الأميركي على مقتل ٣ جنود أميركيين، وعلى نحو ١٧٠ هجوماً “استفزازياً” نفذتها الفصائل الشيعية الموالية لإيران منذ ٧ أكتوبر الماضي ضد القواعد الأميركية في المنطقة.
وكان متوقعاً أن يقول بايدن ليلة أمس أنه لا يريد حرباً مع إيران؛ ولكنه كان لافتاً للنظر حينما أضاف بأنه لا يريد أيضاً حرباً في أي منطقة من العالم.. ثم كان لافتاً أكثر حينما قال أنه لن يحارب إلا من يؤذي الأميركيين حصراً.. ثم بدا منفصلاً عن واقع روحية “كلامه الحمائمي”، حينما أكد أن ضربات ليلة أمس الأميركية ليست إلا بداية حملة ضربات عسكرية ستستمر على جولات متلاحقة!!.
.. واتباع منهجية تفكيك تصريحاته لاستخلاص الرسائل السياسية الواردة في متنها، توضح أن المقطع الأول منها، والخاص بأن إدارته لا تسعى لأي حرب على امتداد العالم، يشي بأن بايدن تقصد أن يطل من وراء حجم كبير من النار الأميركي الذي أشعله بمواقع خصومه في الشرق الأوسط، ليعلن التالي: ان إدارته من موقع قوي وغير ضعيف، قررت أن تبدأ في آخر دقائق من عهدها سياسة حمائمية عالمية وذلك في كل مناطق العالم وليس فقط في الشرق الأوسط وبوجه إيران..
ومنطق الأمور يقول أن تطبيقات هذه “الرسالة الحمائمية العالمية” الأميركية، سيستتبعها سؤال سيطرحه العرب على بايدن وعلى وزير خارجيته الذي يصل حالياً إلى المنطقة، ومفاده هل تطبيقات حمائمية بايدن ستؤدي إلى تخليه عن الفيتو الذي لا يزال حتى الآن يمنع وقف النار في حرب غزة؟. كما سيستتبعها أيضاً أسئلة تطرحها موسكو عن جديد موقفه من حرب أوكرانيا، وأيضاً سيستتبعها أسئلة تطرحها الصين على الإدارة الأميركية التي تعتبرها الأكثر نزوعاً للصدام مع بكين!!،.
قد يكون محل استغراب أن يقول بايدن قبل أشهر من نهاية عهده الذي شهد انخراطه بالتسليح والدعم السخيين لأكبر حربين شهدهما العالم منذ نهاية الحرب الباردة (حرب أوكرانيا وحرب غزة)، أن إدارته تتجه لممارسة “حمائمية عالمية”، في حين أنها في ذات لحظة إدعائها هذا، ترسل طائراتها الإستراتيجية من داخل أراضي الولايات المتحدة لتقصف سورية والعراق، وتستمر بمنع وقف النار في غزة، ولا تزال تقدم الدعم العسكري المفتوح لأوكرانيا.
وعليه، وأقله من ناحية الشكل، يبدو موقف بايدن كما أعلنه ليلة أمس، غير مقروء، ويحاكي وصف ترامب له لجهة أنه مد كفه، من وسط حمم النار التي أشعل بها أمس سماء الشرق الأوسط، ليصافح به “الهواء”؛ ذلك أنه لا يوجد تفسير آخر لواقع أنه اختار أن يتحدث عن “حمائمية إدارته العالمية”، وهو في لحظة ممارسته لبداية جولة قصف عنيف في المنطقة تبدو مفتوحة، وهو أيضاً في لحظة لا يزال موجوداً فيها على ظهر حصانه العسكري في أوكرانيا وفي غزة وفي البحر الأحمر وبمواجهة الصين وروسيا، الخ..
يبقى القول أن لغة بايدن العسكرية كما صاغتها عمليات قصف ليلة أمس، كانت أقوى وأكثر إقناعاً من “رسائله السياسية اللفظية الحمائمية”، بدليل المعطيات التالية التي حملتها:
أولاً- تقصد بايدن أن يستخدم طائرات استراتيجية انطلقت من داخل الولايات المتحدة الأميركية لتضرب أهدافاً في سورية العراق؛ علماً أن بايدن كان لديه خيار ثان، وهو أن ينفذ هذه الغارات بطائرات غير استراتيجية (أف ١٦) تقلع من القواعد الأميركية الكثيرة المنتشرة في المنطقة.. ولكن بايدن تقصد السير بالخيار الأول؛ وهدفه من ذلك توجيه رسالة للذين يطالبون بإخراج القوات العسكرية الأميركية من العراق وسورية، قوامها أن واشنطن ستبقى فعاليتها العسكرية موجودة بحدها الأعلى في المنطقة، حتى لو سحبت قواعدها العسكرية من هذين البلدين.
وبالأساس فإن رسالة بايدن ومعه البنتاغون، الأهم على هذا الصعيد؛ هي تلك التي تريد تسفيه وإحباط نظرية استغرقت طوال السنوات العشر الماضية محللين استراتيجيين في الشرق، ومفادها أن إدارة بايدن مضطرة للإنسحاب استراتيجياً من الشرق الأوسط، وذلك تحت ضغط حاجة أمنها القومي للتفرغ لمواجهة التحدي الصيني في آسيا الوسطى.. وليلة أمس رد بايدن والبنتاغون على هذه النظرية التي باتت رائجة، من خلال إعلان أن حملة القصف ضد أهداف في الشرق الأوسط، انطلاقاً من قواعد عسكرية تقع داخل الولايات المتحدة الأميركية، بإمكانها أن تستمر لعدة أيام ولفترة طويلة، وليس فقط لساعات؛ وهي فعلياً ستستمر لعدة أيام على مراحل متلاحقة..
ثانياً- ركز قصف ليلة أمس الأميركي على استهداف مفاصل حدودية تقع بين العراق وسورية وصولاً إلى دير الزور.. وهذه المفاصل المستهدفة التي تمتد على طول مناطق الميادين فالبوكمال حتى القائم، وصولاً إلى مدينة دير الزور، تعتبر من جهة هي مواقع السيطرة الإستراتيجية والتقليدية لثقل نفوذ فيلق القدس والفصائل الشيعية الحليفة له في المنطقة، وتشكل من جهة ثانية، ذات المناطق التي كانت واشنطن سربت قبل أشهر بأنها تريد استهدافها حتى تقطع طريق إمداد إيران بالسلاح لحلفائها في سورية ولبنان.
والسؤال الذي يطرح نفسه حالياً هو هل بدأ بايدن تنفيذ خطة تدمير البنى التحتية التي تشكل مناطق الوصل بين طهران “ووكلائها في المنطقة”؟؟.
.. وما يدفع لطرح هذا السؤال هو أمران إثنان: الأول إعلان واشنطن أن الحملة العسكرية الحالية هي سياسة طويلة النفس؛ بمعنى أنها ليست رسالة سياسية عابرة وتحذيرية لطهران وللفصائل الحليفة لها؛ بل هي استراتيجية عسكرية ستستمر زمنياً؛ وترمي لتحقيق هدف كبير، وهو إنجاز مشروع إضعاف قدرات أذرع النفوذ الإيراني في المنطقة بشكل عام، مع التركيز على شن عمليات تدمير كاملة للمواقع المتواجدة على الحدود العراقية السورية، نظراً لأن هذه المواقع هي التي تشكل الدينامية اللوجستية لنفوذ إيران في المنطقة، كونها تمثل شريان تفاعل طهران مع الفصائل الشيعية الحليفة لها، وذلك ابتداء من العراق وسورية وصولاً إلى حزب الله في لبنان، وأيضاً استطراداً وصولاً إلى غزة والضفة الغربية.
الأمر الثاني عكسه سلوك الأداء العسكري الأميركي خلال قصف ليلة أمس؛ حيث أن الطائرات الأميركية شنت غارات أولية لتدمير الأهداف المحددة، واستتبع هذه الغارات الأولية عملية تقويم للنتائج التي تحققت؛ ومن ثم بعد ذلك تم شن غارات أخرى لحصد أهداف لم تنجزها الغارات السابقة.