خاص الهديل….
قهرمان مصطفى….

منذ سقوط نظام الأسد، أدارت تركيا مكاسبها الاستراتيجية في سوريا بسياسة خارجية يمكن وصفها بـ”التهدئة الدبلوماسية”؛ وهذا النهج ساعدها على الحد من التدخل العسكري المباشر، وتجنب الاصطدام بمسارات الانتقال السياسي. غير أن هذه السياسة لم تعد كافية في ظل تحولات متسارعة فرضت معادلة جديدة على أنقرة، خاصة مع صعود الدور الإسرائيلي المتنامي في الجنوب السوري.
رسمت أنقرة سياستها السورية وفق مبدأ “الملكية الإقليمية”، فدعمت خطوات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) للتقارب مع دمشق، في محاولة لتجنيب نفسها مواجهة مباشرة؛ فالهدف التركي كان واضحاً: منع قسد من الحصول على شرعية دولية، والحفاظ على وحدة الأراضي السورية كجزء من استراتيجية أوسع لاحتواء النفوذ الكردي.
لم تقتصر معضلة أنقرة على ملف قسد. فإسرائيل بدورها كثفت تدخلها العسكري والاستخباري في سوريا، مستهدفة إضعاف دمشق وتوسيع نفوذها في الجنوب. سيطرت على مساحات جديدة في الجولان، ونفذت ضربات جوية رمزية على دمشق بذريعة حماية الأقليات. لكن في هذا المشهد، كان الهدف أبعد: إقصاء تركيا من أي نفوذ جنوبي وفرض واقع استراتيجي جديد.
وعليه يمكن القول أن المعادلة التركية مع قسد باتت أكثر تعقيداً، خاصة مع انكشاف البعد الإسرائيلي. لذلك، تقف أنقرة اليوم أمام ثلاثة سيناريوهات استراتيجية لا رابع لها:
أولاً: السيطرة الكاملة على قسد؛ وذلك عبر خيار يتطلب هيمنة استخبارية وميدانية طويلة الأمد، وهو مكلف وغير مفضل في الظرف الراهن.
ثانياً: تحويل قسد عبر اتفاق مع دمشق: وهو الخيار الأكثر واقعية سياسياً، ويخدم هدفين متوازيين: تحييد قسد، وتعزيز وحدة سوريا، مع إضعاف ورقة الضغط الإسرائيلية.
ثالثاً: الحسم العسكري: وهو خيار قابل للتنفيذ، لكنه محفوف بمخاطر سياسية واقتصادية وعسكرية؛ من بينها احتمال توتر العلاقات مع واشنطن، واهتزاز صورة تركيا عربياً، وإضعاف تماسك دمشق أمام إسرائيل.
بالتوازي فإن النفوذ الإسرائيلي لم يقتصر على الميدان السوري فقط، بل امتد إلى كواليس السياسة الأميركية. تقارير عدة أشارت إلى أن تل أبيب مارست ضغوطاً في واشنطن لإقصاء شخصيات قريبة من الموقف التركي، من بينها السفير الأميركي في تركيا والمبعوث الخاص إلى سوريا، الأميركي توماس ج. باراك.
باراك، المعروف بقربه من دوائر صنع القرار في واشنطن وصديق شخصي للرئيس الأميركي دونالد ترامب، برز كلاعب مؤثر في ملفات الشرق الأوسط. بالنسبة لتركيا، وجود شخصيات مثل باراك كان يشكل نقطة ارتكاز محتملة في واشنطن، الأمر الذي تسعى إسرائيل إلى تقويضه عبر استبدالها بأصوات أقرب إلى رؤيتها.
لذا يمكن القول أيضاً أن المرحلة المقبلة تحمل مؤشرات لصدام غير مباشر بين أنقرة وتل أبيب، صدام قد يتأجل لكنه يظل قائماً في الأفق. تركيا تدرك أن ترك الساحة لإسرائيل يعني خسارة موقعها كلاعب رئيسي في سوريا، فيما تراهن تل أبيب على الوقت لتفكيك أي معادلة يمكن أن تحد من نفوذها.

