بقلم اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان
في مشهد بالغ الرمزية وقف الرئيس السوري أحمد الشرع في رحاب المسجد الأموي بدمشق يكشف الغطاء عن صندوق أخضر تتدلى على أطرافه نقوش مذهبة من كسوة الكعبة المشرفة معلناً أن المملكة العربية السعودية وبتوجيه وإهداء مباشر من ولي العهد رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان قد منحت سوريا قطعة من ستار الكعبة لتستقر في هذا المعلم الروحي العريق. ولم تكن المبادرة حدثاً بروتوكولياً معزولاً بل خطوة تحمل أبعاداً سياسية ودينية وثقافية تلامس جوهر التحول الجاري في العلاقة بين البلدين وتعيد إدراج سوريا في فضائها الطبيعي داخل العالمين العربي والإسلامي. إذ إن كسوة الكعبة ليست مجرد نسيج مزخرف بل إحدى أثمن الرموز الروحية التي ترتبط مباشرة بقدسية البيت الحرام وإخراج جزء منها من مكة ليُوضَع في دمشق لا يأتي إلا في إطار قرار واع ينطوي على تكريم ودعم وتأكيد على عمق الصلة التي تريد الرياض إحياءها مع سوريا في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخها.
إن اختيار الأمير محمد بن سلمان تقديم هذه الهدية تحديداً يكشف عن رؤية سياسية تتعامل مع سوريا لا كملف أزمة معقد بل كدولة مركزية ينبغي إعادة وصلها بمحيطها العربي على مستوى الهوية والوجدان لا السياسة وحدها. وفي ظل التحولات التي تقودها المملكة على مستوى المنطقة يظهر أن الرياض تسعى إلى بناء توازنات جديدة قوامها الاستقرار والتنمية والانفتاح وأن دعمها لسوريا في طور إعادة التشكل لا يقتصر على فتح قنوات سياسية بل يمتد إلى منحها رمزاً من أرفع الرموز التي يحملها العالم الإسلامي في ضميره الجمعي. وهذه المبادرة لا تقدم دعماً سياسياً فقط بل تفتح الباب أمام إعادة ترميم العلاقة الوجدانية بين الشعبين السوري والسعودي وتعيد بناء جسر الثقة الذي تهشم في السنوات الماضية تحت وطأة الصراع والأزمات في عهد النظام البائد.
وإن وضع قطعة من كسوة الكعبة في المسجد الأموي وهو أحد أعمدة التاريخ الإسلامي ومركز الذاكرة الروحية لبلاد الشام يضفي على المشهد بعداً إضافياً بالغ الدلالة. فهذا اللقاء بين رمز القداسة في مكة ورمز التاريخ في دمشق يعيد للأذهان تلك الصلة العميقة التي جمعت البلدين عبر قرون طويلة صلة صنعتها طرق الحج وملامح العلم والتجارة والسفر وسرديات الفقهاء والرحالة. وبهذا الفعل ترسل الرياض رسالة مفادها أن سوريا ليست مجرد دولة خارجة من صراع بل بلد يعاد الاعتراف بدوره الروحي والحضاري وأن دمجه في حاضنته العربية يتم عبر أقوى لغة يفهمها الناس لغة الرموز المقدسة التي تسبق السياسة وتعلو عليها.
وأما بالنسبة للسوريين فان لحظة كهذه تشعرهم بأن بلادهم تُخاطب لا باعتبارها عبئاً سياسياً بل شريكاً في تاريخ طويل وممتد للهوية الإسلامية المشتركة. وتمنحهم لحظة نادرة يشعرون فيها بأن بلدهم يكرم لا يلام ويحتضن لا يعزل وأن عودتهم إلى العالم العربي ليست مجرد قرار سياسي بل فعل وجداني يحتضن دمشق ومن ورائها سوريا كلها. إن رؤية قطعة من ستار الكعبة تستقر في قلب دمشق تمنح شعوراً بأن البلاد تعود إلى مكانها الطبيعي في الضمير الجمعي للأمة وأن مرحلة الانقطاع والاغتراب تقترب من نهايتها. وفي مشهد الرئيس أحمد الشرع إلى جانب علماء الشام ومسؤولي الأوقاف تتشكل صورة لسوريا لاستعادة توازنها الداخلي وبناء شرعية جديدة محمولة على الاحترام العربي والدعم الروحي العميق. وهي صورة تختلف جذرياً عن سنوات العزلة والقطيعة التي طغت على المشهد السوري سابقاً.
وفي البعد الإقليمي تحمل الهدية رسالة متعددة الاتجاهات. فهي توجه إلى العواصم العربية لتؤكد أن دمشق تعود من بوابة عربية وأن مرحلة ترك الساحة السورية مفتوحة لقوى غير عربية كي تعيد تشكيلها قد انتهت. وهي توجه ايضا إلى القوى غير العربية التي استثمرت طويلاً في الساحة السورية رسالة بأن النفوذ في سوريا لن يكون حكراً على محور واحد وأن الدور العربي يعود بقوة هذه المرة من بوابة مكة وبتوقيع مباشر من الأمير محمد بن سلمان الذي يقدم في سلوكه السياسي نموذجاً لقوة ناعمة قادرة على التأثير بأدوات الرمزية لا أدوات الضغط وحدها. كما تحمل الرسالة بعداً دولياً مفاده أن الرياض تمسك بخيوط أساسية في مسار إعادة تشكيل الشرق الأوسط وأن أي مقاربة لسوريا الجديدة لا يمكن أن تتجاهل موقع المملكة كقوة مانحة وداعمة ومرجعية روحية وسياسية في آن واحد.
ولكن الأثر الأعمق يتجلى في وجدان العرب والمسلمين الذين تابعوا الحدث على الشاشات. إذ إن رؤية جزء من كسوة الكعبة يستقر في الجامع الأموي تستنهض فيهم شعوراً بوحدة الرموز ووحدة المصير وتعيد تشكيل صورة سوريا من بلد أنهكته الحرب إلى بلد يعاد إدخاله إلى قلب الحكاية الروحية للأمة. وان ملايين المسلمين الذين يحملون في ذاكرتهم صورة الكعبة والجامع الأموي كركيزتين من ركائز طفولتهم الدينية وجدوا في المشهد نوعاً من المصالحة العميقة بين الأمس واليوم بين الجرح والأمل بين الرماد والنهوض. وهذا ما يجعل الخطوة السعودية أعمق من مجرد دعم سياسي فهي تدخل في النسيج العاطفي للأمة وتعيد ربط دمشق بذاكرة الناس قبل أن تربطها بالسياسة.
ومن منظور صناعة السياسة يمكن النظر إلى الهدية بوصفها ذروة ناضجة لاستخدام القوة الناعمة السعودية في لحظة تحوّل سوري حساس. فهي لا تفرض إملاءات ولا تقدم شروطاً بل ترسل رمزاً يكاد يكون الأثمن في خزانة الوجدان الإسلامي وتربطه باسم الأمير محمد بن سلمان لتقول إن السعودية لا تريد لسوريا أن تكون مجرد ملف في صراعات الآخرين بل شريكاً في مشروع واسع لإعادة بناء المنطقة واستعادة هدوئها واستقرارها. وفي المقابل تجد دمشق نفسها أمام اختبار حقيقي فإما أن تتعامل مع هذا الرصيد المعنوي كزينة احتفالية ترافق الخطاب الرسمي أو أن تحوله إلى نقطة انطلاق لإعادة تأسيس علاقة مع مواطنيها قائمة على المصارحة والانفتاح والعدالة وإعادة الاعتبار لقيم التعايش التي عرفتها الشام عبر تاريخها الطويل وهذا هو الامل .
وبهذا يتحول حدث الهدية من مجرد مناسبة احتفالية إلى خطوة استراتيجية يعاد من خلالها تشكيل علاقة سوريا بالعالم الإسلامي وتمنح دمشق فرصة لتبدأ من جديد في سياق إقليمي يهيئ لها مساراً نحو الاستقرار والاعتراف والدعم وهو مسار لا يمكن أن يكتب له النجاح ما لم يكن محمولاً على رموز متعدده وعلى مبادرة سياسية بهذا الوضوح والقوة من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وإن كانت السياسة كثيراً ما تُبنى على المصالح فإن مثل هذه اللحظة تذكر بأن المصالح نفسها يمكن أن تحمل معنى يتجاوز حدود الحسابات إلى رحابة الانتماء والوجدان.

