كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
نستكمل في الجزء الثاني ما بدأناه يوم أمس من عرض لمزاريب الهدر المليارية مع كلّ من مدير المحاسبة السابق في وزارة المالية ورئيس الهيئة الأهلية لمكافحة الفساد، الدكتور أمين صالح، والعضو القانوني في المرصد الشعبي لمكافحة الفساد، المحامي جاد طعمة. أرقام أخرى بانتظارنا.
مع القطاع العام استهلّينا حديثنا وإليه نعود. فهو يعاني تضخّماً وظيفياً وصل إلى حدود 300 ألف موظف في العام 2019 في حين لا حاجة للبنان، بحسب مصادر مطّلعة، لأكثر من 18 ألف موظف. واللافت أن عدداً لا بأس به من هؤلاء يعمل في مؤسسات متوقفة منذ سنوات طويلة عن العمل. فوفق تقرير البنك الدولي للعام 2019، بلغت كلفة المحاصصة السياسية في هذا المضمار ما بين 4 إلى 5 مليارات دولار. يقول طعمة: «تمّ في الإدارة زرع موظفين محسوبين على السلطة وذلك نتيجة الزبائنية السياسية. بالمقابل، تمّ ضرب موظفي القطاع العام والإداريين وأساتذة التعليم الرسمي كما أساتذة الجامعة اللبنانية وقدامى القوى العسكرية. وهي ضربات سُدّدت لموظفي القطاع العام لمصلحة موظفين آخرين يعيشون جنّات النعيم من حيث الرواتب والمخصصات الخرافية».
وهذه بضعة أمثلة. فقد أظهر تقرير التفتيش المركزي للعام 2019 توظيف 453 موظفاً في أوجيرو و54 آخرين في وزارة الاتصالات وذلك بعد إقرار قانون منع التوظيف في الإدارات العامة ومؤسسات الدولة. كما كشفت لجنة المال النيابية في آذار 2019 عن وجود 500 موظف في شركتي الخلوي يتقاضون رواتب من دون أن يعملوا. غيض من فيض ما يحصل في إدارات الدولة ومؤسساتها من دون إغفال أن السلطة لجأت من ضمن ما لجأت إليه إلى تمييز القضاة من غيرهم من موظفي القطاع العام. هنا يعلّق طعمة: «لربما كان قرار حاكم المصرف المركزي الأخير بدولرة رواتب القضاة المحدّدة في القانون بالليرة هرطقة قانونية كبيرة ومحاولة رشوة واضحة للقضاء لغض النظر عن الكثير من القضايا والملفات».
الكهرباء وعتمة الإصلاح
صفقات الكهرباء حكاية الحكايات. فبحسب دراسات لوزارة الطاقة ومؤسسة كهرباء لبنان، وصلت قيمة الهدر في القطاع إلى 43 مليار دولار. ويعود السبب في ذلك مرة أخرى إلى المحاصصات السياسية والطائفية على حدّ سواء. وقد أورد تقرير البنك الدولي في العام 2019 أن لبنان يحتاج إلى محطتين فقط لتوليد حاجته من الطاقة في الزهراني ودير عمار. «تمّ تعطيل العمل على هذه الخطة نتيجة تحكّم المعايير الطائفية سعياً للدخول على خط إنشاء معمل ثالث في سلعاتا. وحين فشل البتّ في أمر ذلك المعمل دخلنا في دهاليز فضيحة أخرى وهي استئجار بواخر إنتاج الكهرباء، تزامناً مع رفض تام لمشروع الحلّ الذي قدّمته المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل مع شركة سيمنز لتركيب توربينات وتأمين الكهرباء لكلّ لبنان 24/24»، يضيف طعمة.
في هذا السياق، يرى صالح أن حلّ أزمة الكهرباء سهل جداً مقترحاً «إنشاء شركة مساهمة لإنتاج الكهرباء، يعطى المواطن حق الاكتتاب فيها بأسهم ويباع السهم بدولار واحد. فالأموال التي يتكبدها الناس لتسديد فواتير المولّدات وتركيب لوحات الطاقة الشمسية يمكن استثمارها في هذه الشركة». مع الإشارة إلى أن لبنان بحاجة فقط إلى مليار ونصف المليار دولار لإنشاء ثلاثة معامل بينما تتحكم مافيات المولّدات والديزل والأويل والفيول أويل والمحروقات، والتي تمثّل جميعها جهات سياسية معيّنة، بتلابيب الأمور ما أوصل الهدر على صعيد المحروقات، بحسب آخر الإحصاءات، إلى أكثر من 150 مليون دولار.
الاتصالات… أين كانت وأين أصبحت؟
حالة أخرى نافرة تضاف إلى ما تقدّم وهي قطاع الاتصالات الذي وصلت قيمة الهدر فيه إلى 6 مليارات دولار بحسب ديوان المحاسبة. هنا الفوضى عارمة ببساطة: اعتماد نظام محاسبي خاص من قِبَل شركتي الخلوي، توقيع عروض بالتراضي، موازنات ملحقة وعدم إعادة الأموال إلى المالية العامة. أما فضيحة الفضائح فتلخّصت في عقود وُقِّعت كدعايات وإعلانات وأخرى كعقود رعاية وضمان مهرجانات. وبحسب طعمة، «على رأس قطاع الاتصالات مجلس الإشراف المالك، أو ما يُعرف بهيئة مالكي القطاع، وهي مغارات مالية غرف منها الوزراء دون حسيب ولا رقيب. مثلاً، هناك ثلاث سيّدات يعملن تحت خانة «عمّال مطبخ» يتقاضين بطبيعة الحال بين 350 و750 دولاراً شهرياً، إلا أن رواتبهنّ الشهرية تخطّت الـ6 آلاف دولار». فالقطاع الذي كان يعود بأرباح لا تقلّ عن ملياري دولار سنوياً على خزينة الدولة، أصيب بهذا العجز الفاضح على يد من عيّنتهم الأحزاب والمنظومة القائمة، والكلام هنا لصالح.
حتى أموال الـPCR لم تسلم
مَن منّا لا يذكر الخلاف الذي نشب بين الجامعة اللبنانية وشركتي الخدمات الأرضية في مطار بيروت بخصوص اتفاقية إجراء فحوصات الـPCR للوافدين؟ لكن ما لا يعرفه البعض هو أنه «بالرغم من إصدار ديوان المحاسبة قراراً بإعادة مبلغ يفوق 50 مليون دولار إلى الجامعة اللبنانية المهدورة الحقوق، ورغم تحويل الملف إلى النيابة العامة المالية، إلّا أن الأخيرة لم تحرّك ساكناً، لا بل تحاول ممارسة ضغط على الجامعة للخروج بتسوية تصبّ في مصلحة شركات القطاع الخاص المملوكة من أشخاص نافذين داخل الدولة»، برأي طعمة.
الصرف الصحي… صرف في الهواء
نموذجان معبّران عن الهدر هنا: محطّتا طرابلس وجبيل لتكرير مياه الصرف الصحي. فقد جرى إنفاق 6 ملايين دولار على الأولى وهي مقفلة وخارج الخدمة. أما الثانية التي وصلت تكلفتها في المرحلة الأولى إلى أكثر من 100 مليون دولار، لم تتخطَّ الاستفادة منها نسبة 20%. أما الأسباب فيلخّصها القيّمون عليها بعدم اكتمال الشبكات في البترون والكورة والمقدّرة كلفتها بـ120 مليون دولار فيما المياه الملوثة تسلك طريقها بيُسر إلى شواطئ لبنان الأخضر الحلو.
السدود تبتلع الملايين
ليس هدراً فقط إنما هو فساد وإخفاق أيضاً، وهذا أقلّ ما يقال. إنها الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه التي أقرّتها الحكومة في العام 2012 والتي تضمّنت إنشاء وتأهيل مجموعة من السدود والبحيرات. وقد حُدّد لذلك موازنة تقديرية بقيمة 859 مليون دولار لمحافظة جبل لبنان، 488 مليون دولار للشمال، 300 مليون دولار للجنوب، و328 مليون دولار للبقاع، فيما بلغت تكلفة سد المسيلحة 55 مليون دولار مع تخصيص مبلغ 3 ملايين دولار لتأهيل سد بريصا. وبحسب معلومات مسرّبة من وزارة الطاقة، بلغ الفارق بين الأموال المرصودة للمشروع والتكلفة الفعلية التي تتحمّلها خزينة الدولة أكثر من نصف مليار دولار، علاوة على التكلفة الأصلية المذكورة أعلاه في الخطة.
التكاليف بالأرقام. سدّ بسري: 617 مليون دولار و155 مليوناً إضافية لقاء استملاكات قبل أن تتوقف الأعمال كلياً؛ سدّ بريصا: 27 مليون دولار مع 8 ملايين إضافية لترقيع أرضيته دون جدوى؛ سدّ بلعا: 90 مليون دولار وفشل في تجميع المياه؛ سدّ المسيلحة: 74 مليون دولار والمصير عينه؛ سدّ القيسماني: 30 مليون دولار وفشل أيضاً وأيضاً؛ سدّ جنة: 255 مليون دولار والتسرّبات قائمة؛ سدّ بقعاتا: 88 مليون دولار بلا نتيجة. هذا ويؤكّد مختصّون أن بئرين مدروسين بتكلفة 200 ألف دولار من شأنهما تأمين أكثر من 5 ملايين متراً مكعّباً سنوياً من المياه، وهو ما لا يؤمّنه سدّ بكلفة 100 مليون دولار عدّاً ونقداً.
ملفات من هنا وهناك
الجمعيات التي لا تتوخى الربح وتبلغ مساهمات الدولة فيها أكثر من 220 مليون دولار في حين أن غالبيتها وهميّة. بند التجهيزات والأثاث والمفروشات في الموازنة العامة الذي بإعادة النظر فيه يمكن توفير عشرات الملايين على خزينة الدولة. ملف تأهيل البنى التحتية الذي تخطّت تكلفته منذ التسعينات مليارات الدولارات ليتمخّض شبكة مهملة لا تراعي الجودة المطلوبة. وملف النازحين السوريين الذي، بحسب الدولية للمعلومات، كان ليُدخل على خزينة الدولة ما لا يقلّ عن 100 مليون دولار سنوياً لو جرى فرض رسم سنوي بقيمة 100 دولار على كلّ فرد (على افتراض أن مليوناً هو عدد السوريين المقيمين في لبنان). أما فرض رسم بقيمة 200 دولار سنوياً على كلّ عامل سوري، لكان حصّل للدولة مبلغ 100 مليون دولار إضافية (على اعتبار أن عدد العمال السوريين في لبنان هو 500 ألف عامل). هذا دون أن نتطرّق، من باب توصيف الواقع لا العنصرية أو ما شابه، إلى استفادتهم من خدمات شبكة الكهرباء المعطوبة أصلاً والعديد من السلع المدعومة، ليس الطحين أقلّها.
ما العمل؟
بعد هذا السرد، يعتقد صالح أن تحميل القطاع العام مسؤولية عدم جباية الضرائب والرسوم ادّعاء لا قيمة له. كلّ ما في الأمر أن توقيت الإضراب ليس مناسباً: «كان على القطاع العام أن يلتحق بركب الانتفاضة أما إعلانه الإضراب يتيماً في هذا التوقيت فلا منفعة منه»، كما يشير. المسؤولية، برأيه، تقع على عاتق الطبقة السياسية التي ابتلعت المال العام عبر الفوائد والتلزيمات خارج الصفقات القانونية، ووضعت يدها على الموانئ العامة والأملاك البحرية، وجعلت من المرافق والوزارات بؤر تنفيعات لطوائف وأحزاب. من هنا المطالبة برفع يدها عن القضاء وإقرار قانون السلطة القضائية المستقلة بحيث يتم تعيين القضاة من قِبَل القضاة أنفسهم وليس الأحزاب ورؤساء الطوائف.
صالح ذهب إلى حد دعوة الشعب اللبناني إلى وضع برنامج موحّد يتضمّن تأمين الدواء والاستشفاء والمياه والكهرباء والتعليم المجاني، إضافة إلى استرجاع الأموال التي وضع المتنفّذون اليد عليها وتلك التي حُوّلت إلى الخارج، مع فرض ضرائب على الأملاك العقارية لكلّ من تولّى صفة عامة ودمج المصارف وإعادة هيكلتها. «إن لم نتّفق على برنامج وقيادة موحّدة ستستغل السلطة حالة التشرذم مجدداً، وستحمّل الشعب اللبناني مسؤولية هدر 175 مليار دولار ما سيدخله في نفق الفقر لـ25 سنة على الأقل»، كما يختم.
أما طعمة، فيسأل في المحصّلة كيف يُعقل لدولة باتت مكامن الخلل واضحة فيها وبات الأشخاص المتسببون به معروفي الهوية أن تضع بذاتها خطة إصلاحية شاملة؟ «فليتوقّفوا عن ملاحقة عامة الشعب الذي استُنفدت جميع إمكاناته فيما هم مثابرون على نهجهم. نحن بحاجة إلى نهضة قضائية لأننا من دعاة القانون. فقد يكون من مصلحة القيّمين على النادي السياسي أن تعود الفوضى للإفلات من العقاب. أما نحن فمؤمنون بإحقاق الحق. نريد قضاء حازماً وجازماً يبدأ بمحاسبة الكبار ويضرب بِيَد من حديد لإصلاح ما تهدّم».
دعوة جريئة ومطالب محقّة، لا ريب. لكن فداحة ما أوردناه، وقد يكون ما خفي أعظم، يحتّم علينا «العدّ للمليون»، إذ نتحدّث بلغة الأرقام، قبل عقد الآمال كبيرة كانت أم صغيرة.