كتبت لينا فخر الدين في “الأخبار”:
الانفجار في السجون اللبنانية آتٍ لا محالة إذا استمرّت الأوضاع على ما هي عليه. المسؤولون يتوقّعون أن الساعة الصفر لانفجار القنبلة الموقوتة قريبة، ولو أنهم لا يعرفون الطريقة التي سيعتمدها السجناء للتمرّد على واقعهم. مأساة السجن قديمة، وزادتها سوءاً الأزمة الاقتصادية المستفحلة وتداعياتها على يوميات السجناء داخل الغرف وعلى المحاكم والقضاة. السجون تواجه المجاعة وتختزن كل عوامل الانفجار.
لا تُقدّم الدولة، فعلياً، إلى سجنائها اليوم سوى المأوى بالمجان. يعيش هؤلاء، تقريباً، على نفقة أهاليهم، باستثناء من يُتاجرون بالمخدرات داخل السجن ويدّخرون أموالاً يرسلونها إلى عائلاتهم. وكما بقية المواد الأساسيّة، فإنّ تأمين الدواء يقع أيضاً على عاتق الأهالي، علماً بأن هناك أكثر من 800 سجين في رومية فقط يعانون أمراضاً مزمنة (القلب، السكري، الضغط، التهاب الكبد، الأعصاب…). كما خارج السجن كذلك داخله، باتت الأدوية أيضاً مفقودة في صيدليات السجون (المراكز الصحيّة). موقوفون كثر تعرّضوا لمضاعفات صحية لتناولهم أدوية رديفة لا تتناسب ووضعهم الصحي، وبعض المرضى تعرّضوا لنوبات قلبية أدت إلى وفاتهم. بعض الأهالي يؤمّنون أدوية لأبنائهم، فيما كثيرون متروكون للقدر لعدم قدرة عائلاتهم حتى على زيارتهم.
وفيما يشكو سجناء مرضى في سجن زحلة من عدم السماح لهم بإدخال الأدوية، يؤكد بعض الأهالي، ممن تحدثت إليهم «الأخبار»، أن عدداً من الجمعيات تتولّى تزويد السجون بالأدوية، «لكن الكميات لا تصل كاملة وتتعرّض للسرقة من العناصر الأمنية». يروي سجين في رومية أنّ مرضى داء الشقيقة والأسنان والعظم مثلاً يعانون الأمرّين، «وقد اعتدنا سماع أنينهم لأن الأدوية التي اعتاد هؤلاء تناولها لم تعد موجودة. والقيّمون على الصيدلية يعطوننا حبوباً لا نعرف أسماءها ولا تُسكّن الآلام».
ويؤكد أن هذا ما دفع البعض إلى تعاطي الحبوب المخدّرة التي يتم شراؤها من داخل السجن لتسكين آلامهم، وخصوصاً أنّ الأطباء المناوبين صاروا قلّة. «كان طبيب الأسنان، مثلاً، يُناوب مرةً أسبوعياً، أما هذه الأيام فيأتي مرة شهرياً. البعض ينتظر دوره بلا جدوى، والطبيب يؤكد أن الكثير من المواد الطبية غير موجودة، فيما الموجود منها سيء». أما من يحتاجون إلى عمليات جراحية مستعجلة، فقد غسلت الدولة أيديها منهم. من يُنقل إلى المستشفى في حالة طارئة تطلب إدارة المستشفى من أهله الدفع بـ«الفريش دولار»، وإلّا تقوم بردّه إلى زنزانته للموت فيها.
يقول سجين يعاني من انسدادٍ في الشرايين الدمويّة إنه ينتظر «المحسنين» وأن تأتي «الشحادة» بنتيجة، وإلا فإن مصيره سيكون مثل مصير زميله «أبو نعيم» الذي توفي في السجن قبل تأمين المبلغ المطلوب لإجراء عمليته الجراحيّة! الإهمال الطبي أدى إلى ارتفاع نسبة الوفاة داخل السجون.
نحو 15 سجيناً توفّوا منذ شباط الماضي. يتناقل السجناء رواياتٍ عن «الموت بين بابين»، بين الباب الخارجي والداخلي لسجن رومية. إذ إن زملاءهم الذين يتعرّضون لأزماتٍ قلبيّة ينتظرون لساعات لنقلهم إلى الصيدلية، ثم للاستحصال على إذنٍ لإخراجهم بعد الاتصال بالمستشفى، ثم لوصول سيارة الإسعاف. «هنا مات أكثر من 10 سجناء»، يقول أحدهم، مشيراً إلى وعود لم تتحقق من إدارة السجن بتأمين ماكينة أوكسجين وإنعاش قلب وتجهيز غرفة إسعافات أولية لمرضى القلب، «ولكن من دون أن نراها. ما نراه هو حالات الموت المتكرّرة بالطريقة نفسها وللأسباب نفسها». يروي أحدهم كيف توفي سجين مصري قبل أشهر: «صار لونه أزرق، ورأينا الرغوة تخرج من فمه. صرنا ندقّ على الأبواب ونصرخ طالبين إغاثته. لم يخرج الرجل من رومية على متن سيارة الإسعاف التي وصلت متأخرة، بل مات بيننا».
يعتقد البعض جازماً أنّ هناك ما يُخمد قوة نزلاء السجون ويحول دون إعلانهم «الثورة». قبل أيام، اندلع حريق داخل المبنى «د» في سجن رومية بعد عصيان عدد من النزلاء على خلفية انهيار أحد الموقوفين لعدم سوقه إلى جلسة استجوابه. سريعاً، كبحت القوى الأمنية العصيان ونقلت الموقوف إلى المبنى «واو» حيث الزنازين الانفرادية. بالتالي، يعزو البعض تأخر انتفاضة السجناء إلى الخوف من التعذيب ودخول فرق مكافحة الشغب التي سببت الكسور والأزمات الصحية لعددٍ كبير من السجناء أثناء اقتحامها الأجنحة سابقاً. فيما آخرون واثقون بأن «أبّة باط» حصلت لإدخال كميات كبيرة من المخدّرات بهدف تخديرهم ومنعهم من العصيان.
ويؤكد كثير من السجناء وجود الحبوب المخدّرة بكثرة بين الزنازين ولا سيما في رومية، فيما يتحدّث بعض أهالي سجناء عن شعورهم بعدم اتزان أبنائهم أثناء المشاهدة أو التواصل عبر الهاتف، رغم أن هؤلاء لم يكونوا يتعاطون المخدرات قبل سجنهم.
هكذا، تطبّق الدولة سياسة العصا والجزرة على طريقتها، من دون أن تطرح حلاً جذرياً لأزمة السجناء الذين يقول بعضهم إنهم صاروا يتمنون الموت على «حياة الذل».
يضحك أحد المسؤولين عندما يشير إلى أن هناك موقوفين بسبب غرامة لا تتعدّى الـ100 ألف ليرة، فيما تقدّر كلفة السجين الواحد على الدولة بما لا يقل عن مليون ليرة يومياً بين تأمين المياه والكهرباء والأكل والطبابة والأدوية لأكثر من 8 آلاف سجين موزّعين على 25 سجناً (نحو 6 آلاف في رومية الذي لا يتسع لأكثر من 1050 سجيناً) وأكثر من 1500 موقوف في النظارات وقصور العدل وأماكن الاحتجاز التابعة لقوى الأمن الداخلي (تتغيّر هذه الأرقام يومياً). علماً أنّ أكثر من 30% من نزلاء السجون اللبنانية والنظارات هم من السوريين.
الاكتظاظ صار مرادفاً لكلمة سجن خصوصاً مع الحديث عن أن النسبة تصل إلى أكثر من 300%. ويروي موقوفون أن بعضهم ينام على طريقة «التسييف» (على أحد جوانبهم) لأن الأعداد الموجودة في غالبية الزنازين في السجون المركزية تفوق القدرة الاستيعابية. سجن القبة أحد الأمثلة الحية، حيث يصل عدد النزلاء في الغرفة الواحدة إلى نحو 53، ويضم السجن ضعف قدرته الاستيعابية التي لا تصل إلى 600 سجين.
يتحدّث سجناء في رومية عن زنازين هي أشبه بـ«قاووش 7 نجوم» تضم 6 إلى 7 أشخاص، في حين أن زنازين أخرى تضم أكثر من 15 شخصاً. وهذا يحصل في معظم السجون التي تعمل على «تكديس» النزلاء، باستثناء ربما سجن زحلة الذي يُعد أفضل من غيره لكونه أنشئ حديثاً وبالتالي فإن الدخول إليه أسهل وزنازينه أنظف.
التمييز بين السجناء لا يتوقف على الزنازين وحسب. يتحدّث بعضهم عن فوارق اجتماعية وطائفية بين جناحٍ وآخر ومبنى وآخر. هذا تحديداً ما يحصل في رومية الذي يبذل المعنيون جهوداً لإحباط الإشكالات الطائفية داخله. لذلك، صار للسجناء السُنة (بغض النظر عن تهمتهم) مبنى خاص بهم هو «المبنى ب». فيما الغلبة في المبنى «د» للشيعة مع قلة من المسيحيين، أما «الأحداث» والنظارات الـ6 فـ«يسيطر» عليها المسيحيون، فيما «مبنى المحكومين» موزّع «مناصفة» بين المسيحيين والشيعة.
ينقل سجناء أن الأحوال في «المبنى ب» أفضل من غيرها بسبب الأوضاع المالية الجيدة لبعض نزلائه ما ينعكس على السجناء الآخرين. هذا ما حصل مثلاً في عيد الأضحى، عندما وزّع سجناء المبنى لحوم الأضاحي على الأكثر حاجة منهم فيما يُحرم سجناء المباني الأُخرى منذ «أكثر من سنة ونص» على ما يؤكد أحد السجناء. وهو ما ينسحب على معظم السجناء في كل السجون، إذ يتناولون في الغالب صنفاً واحداً من الطعام، خصوصاً أن المسؤولين يمنعون إدخال المواد الغذائية إلى السجون المركزية خوفاً من خلطها بمواد مُخدّرة. وهذا ما يرتّب على الأهالي أعباء مالية كبيرة. يشير أكثر من سجين إلى أن «الترويقة المعتادة» لبنة «منشّفة» وأحياناً «مربّى». لكن كميات «الأروانة الصباحية» (الوجبة) لا تكفي للف أكثر من سندويشة واحدة لأن كمية اللبنة لا تزيد على ملعقتين أو ثلاث، فيما حُرم هؤلاء من الجبنة والبيض. أما الغداء فيتضمّن الدجاج لنحو 3 أيّام أسبوعياً، لكن المشكلة تكمن بأن نوعية الأكل رديئة. أزمة الطحين كان لها أيضاً تأثيرها على السجناء الذين بات كل منهم يحصل على رغيفي خبز يومياً بعضها يكون غير طازج، فيما تقتصر الوجبات على الفطور والغداء فقط. في المقابل، يقول أحد المسؤولين إنّ «السجناء يعيشون في أحوال أفضل من تلك التي يعيشها من هم خارج السجن»، مؤكداً أن «نوعية الأكل ممتازة». «الميسورون» من السجناء يشترون المواد الغذائية والخضار من «الحانوت» (دكان السجن). ولكن مع غلاء أسعار السلع وتخفيف معظم الأهل زياراتهم بات هؤلاء يعتمدون على «الأروانة» ويستغنون عن الحانوت بسبب الارتفاع الخيالي لأسعاره والتي تصل إلى ضعفي الأسعار خارج السجن. يقول أحد السجناء في سجن زحلة إن سعر غالون الزيت سعة 1.5 ليتر أو 2 ليتر يصل سعره إلى 300 ألف ليرة فيما لا يتعدى سعره خارج السجن 120 ألفاً. علماً أن «الحانوت» هو عبارة عن متعهد يؤمن السلع والغذائية ومواد التنظيف، ويتحدث كثيرون عن فساد في المناقصات التي تفوز بها شركات محسوبة على جهات سياسية.
غلاء الأسعار دفع بـ«فريد» (اسم مستعار) وزملائه في «القاووش» إلى الاستعاضة عن شراء صناديق المياه من «الحانوت» بعدما وصل سعرها إلى 50 ألف ليرة (5 عبوات كبيرة)، بمياه الحنفيات، علماً أن هذه غير صالحة للاستحمام وتتسبّب بطفرات جلدية وأنواع كثيرة من الحساسية وأدت أحيانا إلى انتشار الجرب. يؤكد فريد أنه عند مراجعة «الصيدلية» (مركز الطبابة داخل السجن) يؤكد لنا الأطباء المناوبون أن السبب يعود إلى تلوّث المياه ونوعية الأكل وعدم التعرّض للشمس. ويشرح أنه يقوم بغلي المياه التي يكون لونها عادةً بين بني أو مائل إلى الاحمرار لتخفيف الجراثيم الموجودة فيها، «كما أننا نعمل أيضاً على غليها لفترات أطول حتى نشرب منها»، لافتاً إلى أن الغلي لا يحل الأزمة، إذ بات السجناء يعانون اليوم من نوبات رمل متكرّرة، وهذا ما يعزوه الأطباء إلى المياه الآسنة التي نشربها.
وهو ما ترويه الناطقة باسم أهالي السجناء والعضو في جمعية أهالي لجان الموقوفين في السجون اللبنانية رائدة الصلح، مشيرة إلى أنّ بعض السجون تعاني دورياً من انقطاع المياه مما يضطر السجناء إلى القيام بتحرّكات تمرّد. كما يؤكد أحد السجناء في سجن تبنين أن المياه تكاد تكون مقطوعة في معظم الوقت.
في المقابل، تنفي المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي هذا الواقع وتلفت على لسان أحد ضباطها إلى أنها متعاقدة مع شركات متخصصة لتأمين المياه في حال انقطاعها، إضافة إلى تركيب فلاتر في الخزانات للتأكد من جودة المياه، نافياً أن تكون المياه آسنة أو تعتريها أي مشكلة، لافتاً إلى أن لا جرب داخل السجون بل هي حساسيات جلدية ناتجة من قلة نظافة بعض السجناء.
وإذا كان السجناء يعانون من انقطاع المياه أسوةً بالمواطنين الذين يتمتعون بحريتهم خارج السجون، فإنهم أيضاً يعيشون على العتمة في معظم الأحيان. وهذا ما يكبّدهم تكاليف مالية إضافية بسبب رمي السلع الغذائية والمأكولات الموجودة في البراد ثم شراء غيرها. يقول أحد السجناء في رومية إن انقطاع الكهرباء «يمتد لساعات طويلة ما يزيد علينا الشعور بالحر خصوصاً أننا مكوّمون في الغرف».
فيما يشير موقوفٌ آخر في زغرتا إلى أن السجن يقع تحت الأرض، و«لكم أن تتخيّلوا مأساتنا في الصيف في ظل انقطاع التيار الكهربائي». وهو ما يعانيه أيضاً نزلاء سجن القبة الواقع تحت الأرض أيضاً، والشديد الاكتظاظ، حيث يتحدث السجناء عن وجود «مشكلة كبيرة بسبب انعدام النظافة والروائح الكريهة المنبعثة من المكان». فيما عمد أهالي بعض الموقوفين في «سجن فخر الدين» إلى تأمين المازوت على نفقتهم كي يتمكّن المسؤولون عن السجن من تشغيل المولد الكهربائي لأبنائهم!