كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
نزعت المشاهد المنقولة من أمام أفران الخبز يوم أمس ما تبقى من «خيطان قش» عن عورة المنظومة. فقد أثبتت أنه لا حدود لعدم كفاءتها وإهمالها إذا أفترضنا حسن النية، ولجشعها وتجردها من الأخلاق إذا أرضينا ضميرنا بتوصيف الواقع. عشرات المليارات صرفت بفترة قياسية على الدعم الوهمي، والأمن الغذائي ما زال «سراباً»، كلما لاحقناه ابتعد أكثر.
المبلغ المصروف على الدعم المباشر للسلع منذ بداية الأزمة (تحديداً من منتصف 2020 ولغاية أيلول 2021) بلغ نحو 17 مليار دولار، أي أنه أنفق أكثر من مليار دولار شهرياً لتسهيل وصول المواطنين الى السلع بأسعار رخيصة. في المقابل لحظت دراسة «معالجة انعدام الامن الغذائي في لبنان المنكوب بالأزمات» الصادرة حديثاً، أن 82 في المئة من السكان يعيشون في فقر متعدد الأبعاد. وأن الوصول إلى الغذاء بالنسبة للأكثرية يثير قلقاً متزايداً مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية محلياً وعالمياً، وتدهور قيمة الليرة.
التكيّف السلبي
حتى الأمس القريب استطاع قسم كبير من المواطنين «البقاء على قيد الحياة بدون أساسيات العيش» على حد وصف تقرير اليونيسف الصادر العام الماضي. من بعده أشارت دراسة على 931 عائلة في الفصل الاول من العام الحالي، أجرتها الجامعة الاميركية في بيروت بتمويل من «الصندوق الوطني للديمقراطية» تحت عنوان «تطوير السياسات العامة المبنية على الأدلة في إدارة الازمات» إلى النتائج التالية:
– 85 في المئة من الأسر اضطرت إلى تقليل كمية الأطعمة الاساسية التي تشتريها.
– 33 في المئة من البالغين يستغنون عن بعض الوجبات أكثر من مرة في الأسبوع.
– 33 في المئة من الأسر لا تستطيع شراء وجبة تحوي لحوماً أو دجاجاً أو سمكاً مرة واحدة على الأقل في الاسبوع.
حتى البديل لم يعد موجوداً
البديل عن اللحوم والوجبات الاساسية المستغنى عنها بشكل متزايد، كان الخبز والحبوب بشكل أساسي. حيث يشكل هذان المكوّنان بين 35 و39 في المئة من الاستهلاك اليومي للطاقة الغذائية بحسب دراسة «معالجة انعدام الأمن الغذائي في لبنان المنكوب بالازمات»، «مما يجعل توفّرهما بالكمية المطلوبة والسعر المقبول أمراً ضرورياً لعيش الأسر. لكن حتى هذا المكون الأساسي البسيط الذي رضي به المواطنون، عجزت السلطة عن توفيره. فمنذ نيسان الفائت دخل الرغيف في معركة «داحس» وزارة الاقتصاد، و»غبراء» المطاحن والأفران. فتخفيض الدعم عن الطحين وحصره بصناعة الرغيف العربي، لم يعجب المنتجين، فبدأت أوسع موجة من التقنين في بيع الخبز مقابل استعمال الكميات المدعومة إما للتهريب، وإما لصناعة منتوجات غير مدعومة وبيعها بسعر السوق.
ورغم كل ما نشهده اليوم إلا أن «الأمور مرشحة للتأزم والتفاقم أكثر»، بحسب المساهمة في إعداد دراسة «معالجة انعدام الامن الغذائي» الخبيرة في الاقتصاد الزراعي سهاد أبو زكي. «حيث يمكن الملاحظة بسهولة سرعة تدهور الاوضاع المعيشية وازدياد حجمها كل شهر عن الشهر الذي يسبقه. وهي تترجم بازدياد أعداد الاسر التي تضطر إلى اقتطاع مقادير كمية ونوعية بشكل مستمر ومتزايد من وجباتها في سبيل المحافظة على الاستمرار». ومما يفاقم المشكلة برأيها «غياب الشفافية الذي تظهّرت بشكل واضح خلال أزمة القمح الاخيرة، وانعدام وضوح الكميات الموجودة وكيفية توزيعها بين المطاحن وبينها وبين الافران. وغياب التنسيق بين الوزارات المعنية بالأمن الغذائي، وتدخل السياسة بتوزيع المساعدات بطريقة غير عادلة، ووجود الاحتكارات في السوق، وعدم وجود نية بتنفيذ ما يتم الوعد به».
الحل المرّ
يتطلب الأمن الغذائي بمعناه العريض أمرين أساسيين: توفّر الغذاء، وسهولة الوصول اليه. وهذان الأمران يفتقدهما لبنان في ما يتعلق بالخبز تحديداً. فـ»الرغيف مفقود نتيجة الدعم الذي يشجع على التهريب والتخزين والاحتكار، وتحريره يجعله متوفراً في السوق لكنه يصبح خارج متناول الكثيرين لارتفاع سعره. خصوصاً في ظل عدم تصحيح الاجور بالليرة اللبنانية، وتناقصها بالعملة الأجنبية»، تقول الزميلة الباحثة في مبادرة الاصلاح العربي فرح الشامي. «الأمر الذي يدخل الازمة بالغة التعقيد اجتماعياً واقتصادياً في دائرة مغلقة يبدو الخروج منها مستحيلاً». من هنا ترى الشامي أنه «يجب التعامل مع هذه الأزمة وكأنها حال طوارئ إجتماعية، وإفساح المجال بالتالي لتدخل برامج الحماية الاجتماعية بمختلف أنواعها. وذلك انطلاقاً من توفير أرضية الحماية الاجتماعية التي تخول كل المواطنين تأمين متطلبات العيش الكريم وفي مقدمها الغذاء والطبابة والتعليم. وللغاية يجب العمل على تعزير البنى الاجتماعية وزيادة مرونتها في التعامل مع الأزمات وإضافة التحويلات المالية المباشرة لمن هم بحاجة.
العوائق
بيد أن المشكلة في التدخل الاقتصادي الاجتماعي المطلوب للحؤول دون تدهور الأمن الغذائي تتمثل في وجود 4 عوائق أساسية برأي الشامي وهي:
– انهيار قيمة العملة الوطنية، مما يحرم فئات واسعة من الوصول إلى الغذاء.
– فشل الحكومة بتأمين البدائل للمواطنين الذين تهاوت مداخيلهم نتيجة العجز المالي.
– غياب الارادة السياسية للاصلاح، لاستفادة من في السلطة زبائنياً من الواقع القائم.
– هدر من تعاقب على الحكم الموارد العامة وسرقتها.
كل هذه الامور تجعل الاتكال على منظمات المجتمع الدولي والمنظمات الدولية كـ»منظمة الزراعة والاغذية العالمية، (الفاو)» وبرنامج الاغذية العالمي… وغيرهما. إلا أن حتى هذه المنظمات لم يعد لبنان في أولويتها برأي الشامي، «نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا وصب مجمل الاهتمام على اللاجئين بشكل عام، ومنهم السوريون الموجودون في لبنان». وعليه يكون البديل الدائم هو اللجوء إلى الحلول المكلفة قصيرة المدى كقرض البنك الدولي الذي أقر البارحة في مجلس النواب بقيمة 150 مليون دولار والذي تراوحت فترة الاستفادة منه بحسب وزير الاقتصاد نفسه بين 6 و18 شهراً. فهو قد يؤمن البديل موقتا عن رفع الدعم كليا إنما قد تنتهي مفاعيله قبل ايجاد الحل المستدام. خصوصاً في حال صُرف فقط على شراء القمح.