كتب العميد المتقاعد د. عادل مشموشي:
تعقيبا على نبأ انتحار أحد عناصر مخفر طليا وما سبقه من حوادث مماثلة، نتيجةَ المظالم التي يتعرَّضُ إليها الضباط الرتباء والأفراد في مُختلف الأسلاك العسكريَّة والأمنيَّة سَواء كانوا في الخدمة الفعليَّةِ أم من المُحالين على التَّقاعُد، وكل ما يتعرَّضُ له عُمومُ موظفي القطاع العام والعاملين فيه.
أجدني قبل الغوصِ في كتابة هذا المقال مُضطرا لأن أستميح العذر من القراء الكرام إن خَرجت مُكرها، وعلى غير عادتي، عن أدبيَّاتِ الكتابةِ، لأنه لم يعد لدي القُدرَةَ على احتمالِ التطاول على الحقوق الموظفين العامين وكرامتهم، ولم يعد يمُستطاعي حبسُ ما يختلج في صدري من غضبٍ، ولا كبت ما ينتابني من شعورٍ بالمَقت والازدراء تجاه جميع مُكوناتِ الزُّمرِ السّياسِيَّةِ التي توالت على حُكمِ البلد منذ عقدين من الزمن، وتحكَّمت ولم تزل تَتحكّم بمصير البلاد والعباد، هذا بالإضافةِ إلى شعورٍ بالخزي والعار تجاه نفسي اولا كما تجاه كُلِّ لبناني خانِعٍ راضِخٍ ساكتٍ او غير مبال لما حلَّ بالوطن ولما أصاب الشعب من ويلات ومآس وما يتعرَّض له المواطنون الشرفاء يوميا من مُعاناة وقهر وإذلال وظلم، والتي تنعكسُ على الأفراد كحالةٍ من اليأس، يدفعُهم إلى الاستِسلامِ والتَّسليم بما يُحاكُ لهم او إلى الانتحار.
ولمن يرى في كلامي هذا شيئا من المُبالغةِ في توصيفِ حالةِ اللبنانيين، أنصحُهم بالتفكير في اسباب ارتفاعِ مُعدَّلِ حالات الانتحارِ بين اللبنانيين عامةً، وبخاصَّة بين فئة الشباب الذين سُدَّت كل السُّبل أمامهم بحثا عن مُستقبل لائق، ومثلهم أرباب الأسَرٍ الذين يشعرون بالحرج تجاه من يُعيلونَهم لكونهم أمسوا غير قادرين على تأمين أدنى المُتطلباتِ المَعيشيَّة والصحيَّةِ والتربويَّةِ لأسرهم.
اللبنانيون بغالبيَّتهم يعانون من ضُّغوط مُتواصِلةِ تردُّ إلى تردي سوء اوضاهم المعيشيَّة، وتفاقم مُعاناتِهم اليوميَّة. كل هذا يحصلُ وسِياسِيونا مُنشغلون في تجنُّبِ ما ينتظرُهُم من عقوباتٍ خارجيَّة جزاء لفسادِهم، كما بمحاولةِ تلميعِ صحائفِهم السَّوداء، المُلطَّخةِ بدماءِ الأبرياء، وبسعيهم لتبييضِ أموالِهم الملوثة بالفسادِ التي هربوها إاى خارج لبنان، وما زالوا يسعونَ لأخفاء مَصادرِ ثرواتِهم التي جَنوها على حِسابِ عَرقِ الفُقراء. لذا تراهم لا يكترسون لمُعاناةِ الشعب، ولا يهمُّهم الوقوفَ على أسبابِ تفشي ظاهِرةِ الانتِحار او أسباب تفاقُمها. فسيَّان لديهم أكان ضحاياها من عامَّة الشعب أم من أفراد القوى المُسلَّحَة جرَّاء الإمعان في التَّطاولِ على حُقوقِهم وقتل الروحِ المَعنويَّةِ لديهم والتَّسبُّبِ في إذلالهم ماديا ومَعنويا.
يكادُ لا يمرُّ يومٌ إلا ونشهد حالات تَخلفٍ عن الخدمة والفرار في الاسلاك العسكرية والأمنية، ولا يمر اسبوعٌ إلا ويصلنا بالتواتر نبأ إقدام أحد العناصر على الانتحار.
لقد أضحى الانتحار في لبنان ظاهِرَةً عامَّةً مُتفشيةٌ بين الطَّبقتين الفقيرَةِ وما كان يُعرفُ بالطبقةِ المتوسِّطة، ولكن أخطرُ ما فيها ارتفاعُ نسبة المُنتحرين في صُفوفِ العناصِر ِالعَسكريَّةِ والأمنيَّة.
إن جادثةَ انتِحارِ أحد عناصِرِ فصيلةِ طليا ليست الاولى من نوعِها، ولن تكون الأخيرَة، وهي تُعبِّرُ بوضوحٍ عن الحالةِ النفسيَّة الصَّعبةِ التي وصل إليها الموظَّفونَ والعاملون في القطاعِ العام، وفي صَدارتِهِم العسكريون والأمنيون، نتيجَةَ تردِّي القيمَةِ الشرائيَّةِ لرَواتبِهم.
ما كانت مُختلفُ روابِطِ الموظَّفين والعاملين في القطاعِ العام لتُجمعَ على الدَّعوةِ إلى إضرابٍ عامٍّ والامتناعِ عن الحُضورِ إلى مراكزِ العمل، لو أن المُمسكون بزِمام الأمورِ في الدولةِ وتسييرِ شؤونها قد تَحلوا بالمسؤوليَّة، وتفهَّموا الحالةَ المأساويَّة التي أوصلوا الموظَّفين إليها.
نعم إن امتناع الموظفين عن الحضورِ إلى مراكز عَملهم واستنكافِهم عن تاديةِ المهامِ المُناطةِ بهم قد تسبب بشللِ المرافقِ العامَّة، وأوقفَ الجبايَةَ وتحصيلَ الرُّسوم، وحجبَ الخَدماتِ عن طالبيها، إلا أن مَردَّ ذلك إلى جُملةٍ من الأسبابِ التي نكتفي بالإشارة إلى أهمها:
اولها: أن مُقتسمي الجبنة او مُتحاصصي خَيراتِ الدولة وثرواتها ومُغتصبي أملاكها العامَّة، هم من برعى الحُلول، بمُقارباتٍ ثبُت فشلُها، وبوعودٍ عُرقوبيَّة باطلة خادِعَة.
ثانيها: عدم اعتمادِ مُقارباتٍ قانونيَّةِ مبنيَّةٍ على مَعاييرَ مُتجرِّدةِ وعادلةٍ في تسويَةِ أوضاعِ الموظَّفين والعاملين في القِطاع العام.
ثالثها: التَّعامي عن التَّفاوتِ الكبيرِ وغير المُبرَّرِ في دَخلِ الموظَّفين من مُختلفِ الأسلاكِ والفئات والرتب، بحيث ان مجموعَ ما يتقاضاه بعضُ كِبارِ المٌوظَّفين شَهربا يعادلُ ما يزيدُ عن عشرةِ أضعافٍ مما يتقاضاهُ صِغار الموظغين. هذا بالاضافةِ لعدمِ المُساواة في دخلِ من هم في الفئةِ ذاتها، إذ قد يصلُ مُجملُ ما يتقاضاهُ احدٌ كبارِ الموظفين من راتبٍ وتعويضاتٍ وبدلات، ما يعادلُ أضعافَ مداخيل نُظرائهِم ممن يعملون في آداراتٍ أُخرى، من دون اي مُبرِّرٍ موضوعي مُقنِع.
رابعها: إن من يتولى احتسابَ ما يُسمونه بالمُساعَدَةِ الاجتماعيَّةِ وبدلاتِ الانتقالِ اليوميَّةِ للموظفين هم اولئك الذين يتنعمون بثرواتٍ طائلةٍ جُمِعت ليس من شُحٍّ إنما من حَرام.
خامِسها: إن من نهبوا البلد وهرَّبوا أموالَهم للخارجِ وتسبَّبوا بأزمَةِ لبنان المالية- النقديَّة، يَستكثرون على المُوظفين العيشَ بالحَدِّ الادنى من الكرامةِ الإنسانيَّة.
سادسها: إن من يتولى إعادةَ النَّظرِ في مداخيلِ الموظفين، هم ممن يتآمرون عليهم، بحيث كان دأبُهم ولم يزل تشتيت شَملِهم بالتَّمييزِ في ما بينهم، للإستفراد بهم، ودفعِهم مُكرَهين لفكِّ الإضرابِ والعَودَةِ إلى عَملِهم.
سابعها: إن تَركيزَ المسؤولين ينصبُّ على إنهاءِ إضرابِ الموظفينَ والعاملين في القِطاعِ العام وليس على استِعادَةِ النَّشاطِ إلى هذا القطاعِ العام وإحيائه مجدداً. وكل مُبتغاهُم تمريرُ الوَقت، لحين خُروجِهم من هذه المرحَلةِ الانتقاليَّة بأقل خسائر شَخصيَّة.
ثامنها: إن المساعي التي يبذُلها المسؤولون المهتمون بانهاء حالةِ الشَّللِ التي أصابت القِطاعَ العام تَهدفُ إلى استرضاءِ البنك الدولي، لا إعطاءِ الموظفين بعضاً من حُقوقِهم الماليَّة.
تاسعُها: إن من يتظاهرُ بحِرصِهِ على الموظفين اليوم، يُمعِنُ في إهانتِهم، باعتمادِ أساليبَ ملتويَةٍ اسكاتيَّةٍ غبر قانونيَّة، تحت مُسمياتٍ استِفزازِيَّة، كمُساعَدةٍ انسانية وراتبٍ تَحفيذي، في حين ان المطلوب الاستجابَةِ ولو بالحدِّ الإدنى لحُقوقٍ مَشروعة، ليست بمِنَّةٍ من أحد.
عاشرها: إن المسؤولين الذين يُظهرونَ التزاما بالقوانين في تعاطيهم مع رواتبِ الموظفين يُبالغون في التَّظاهُرِ بالحِرصِ على المتوازنة ما بين الإيرادات والواردات في الموازنة، مُتناسين أنهُم في طليعَةِ من انتهكوا هذا المبدا طوالَ ثلاثةِ عقودٍ من الزَّمن، وأنهم تخلفوا عن إقرارِ الموازناتِ السنوية في مواعبدها، وامتنعوا عن إجراء الحِسابِ الخِتامي وقَطعِ الحِساب.
حادي عَشرُها: إن من يبدون حِرصاً على ماليَّةٍ الدَّولةِ وعدمِ تخطي الاغتماداتِ المرصودةِ في احتِسابِ تكاليفِ تسويَةِ أوضاعِ الموظَّفينَ الماليَّة هم لا يراعون هذا المبدا في باقي المصاريف، التي تناسبهم..
ثاني عشرها: إن المسؤولين الذين يتولون إطلاقَ المُبادراتِ الترقيعية لأوضاع الموظفين ويطلقون الفتاوى التبريريَّةِ لها، هم في الواقِع يَسعون لاسترضاء واستمالةَ فئةٍ من الموظفين على حسابِ فئات أخرى، والأخطرُ من كل ذلك أنهم يتآمرون جَهارةً على المُتقاعدين، ناكرين جميل ما قدمه هؤلاء طوالَ سني خدمتهم في الوظيفة العامَّة، وتصويرِهم وكانهم عالةٌ على المُحتمعِ بعد ان استُنزفوا وهم في ذروة عطائهم، وها هم يتخلون عنهم عندما وهنت صِحتهم ويرمونهم في معاناتهم يتخبطون، بعد أن امسوا بأمسِّ الحاجَةِ الى الرعايَةِ الصحيَّة والاجتماعبَّة.
وأخيرا وليس آخرا نسألُ كيف لهؤلاء الحُكام الذين يحتمون بعناصِرَ عسكريَّة وأمنية أن يتآمروا على من يوفِّرونَ الحِماية لهم، باعتمادِ حُلولٍ مُلتبسةٍ اشبه بطعنةٍ في الظَّهر، كونها تنطوي على افتئات على حُقوقهم، بتخصيصِهم بما يقلُّ عن نصفِ وربما عن رُبعِ ما أخصوا به فئات أخرى ممن يتساوونَ مَعهم بالرتبة. عجبا كيف لا يَخجلون!!!!
وأنهي بنصيحةٍ خالصةٍ لكل من تراودُهُ فكرة الانتحارِ مُنبها إياهم أن الموت انتحاراً مَعصيَةٌ للخالق، وتَعبيرٌ عن جُبن، وقهرٌ للمظلومِ وانتِصارٌ للظالم، أما الدفاعُ عن النفسِ والحقوقِ المُنتهكَةِ بالاقتصاص من الظلَّام، فيه مَرضاةٌ لله، وتعبيرٌ عن شجاعة، وانتصارٌ للمَقهورين وحسابٌ الظالمين المُستبدين المُتآمِرين. وأولى بكل مَظلومٍ ومُعتدى عليه، بدلا من ان يقتل نفسَه مُبرئاً قاتله، أن يُبادرَ إلى الدِّفاع عن نفسِه بكُل الوسائلِ المُتاحَة، الا تقتضي العدالةُ الأخذ بمبدا العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم.
أقولُ قولي هذا، لأنني إمسيتُ على قناعةٍ تامَّةٍ بأن الخلاصَ من جورِ الحُكامِ، وكل هذه الظلاماتِ لا يستقيم إلا بعصيانٍ مدني تليه ثورَةُ جِياعٍ تتولى إحقاق الحق بعد ان تخلى المعنيون عن واجباتهم.
العميد المتقاعد د. عادل مشموشي