كتبت راغدة درغام في “النهار العربي”:
أحد أهم الأسباب وراء زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي تايوان، وقبل ذلك أوكرانيا، هو عزمها على توسيع بيكار إرثها السياسي Contours of her legacy وملامحه ليشمل السياسة الخارجية الأميركية في محطاتها الكبرى، نحو الصين وروسيا بالذات. لكن الجانب الشخصي ليس وحده الذي يدفع السيدة بيلوسي الى هذه الزيارات، وإنما أيضاً ولاؤها للحزب الديموقراطي وعزمها على مساعدة الرئيس الديموقراطي جو بايدن كيفما كان. قد نرى قريباً السيدة بيلوسي تحط في طهران تمهيداً أو تتويجاً للصفقة الكبرى بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
عندئذ ستتجنّب رئيسة مجلس النواب التحدّث عن معادلة “الديموقراطية للتصدّي للأوتوقراطية” التي يحلو لها التغني بها. ذلك لأن الصفقة مع طهران هي صفقة مع الأوتوقراطية القصوى، أي الحكم المطلق لجماعة النظام في طهران بدءاً بمرشد الجمهورية الإسلامية. أوتوقراطية الصين وروسيا ليست وحدها ما دفع نانسي بيلوسي الى سابقة زياراتها، بالذات زيارتها تايوان التي أغضبت الصين وأدّت الى مخاوف البعض من تحوّل المناورات العسكرية الى مواجهات كبرى. المصالح الاستراتيجية ومصلحة تموضع الحزب الديموقراطي لا بد من أنها كانت ضمن الاعتبارات الرئيسية للسيدة بيلوسي. إنما السؤال هو: هل كانت تلك الزيارة بهدف الاحتواء المسبق لأي إجراءٍ صيني لغزو تايوان، أم كانت بهدف استفزاز الصين للوقوع في مصيدة؟
قد لا يكون الاحتواء الاستباقي ولا الاستفزاز المدروس في طليعة حسابات الحزب الديموقراطي الذي وافق عملياً على زيارة بيلوسي تايوان. فهذه زيارة لها نكهة المناورة السياسية والمناورة الاستراتيجية المحكّمة. الخوف دائماً هو من خروج الأمور عن مساراتها المدروسة، وهنا الخطر من تداعيات زيارة بيلوسي. إنما، حتى الآن، يبدو أن هذه الزيارة خدمت كلاً من الرئيسين الأميركي جو بايدن والصيني شي جينبينغ اللذين كانا تحدّثا هاتفياً لنحو ساعتين مساء 28 تموز (يوليو) أي قبل أقل من أسبوع من زيارة بيلوسي.
لعل هيستيريا تتبّع أكثر من مليون شخص رحلة طائرة بيلوسي الى تايوان قد ساهم في اضطراب الأسواق المالية نتيجة الزيارة، إنما قد تكون القراءة الخاطئة أساساً هي السبب. فمنذ البداية، لم تكن هناك مؤشرات الى أي قرار استراتيجي بالمواجهة المباشرة مع الصين، بل إن المنطق أفاد بأن تلك الزيارة لم تكن لتتمّ لو لم يكن هناك الحد الأدنى من التفاهم عليها بين الرئيسين الأميركي والصيني.
كلا الرئيسين والبلدين بدوا على اتفاق على أن لا مناص من التصعيد اللفظي والتهديد المتبادل علناً في إطار ضجيج استراتيجي ضروري في الدولتين. كلاهما استفاد على صعيد وضعهما السياسي داخلياً لأن زيارة بيلوسي سمحت للطرفين بإعادة تأكيد المواقف التقليدية لكل منهما في شبه تمرين سياسي مفيد لإبراز الاستقلالية ولشد العضلات الاستراتيجية. وهكذا، كانت زيارة بيلوسي خطوة جدّية في دعم بايدن وفي إبراز جدّية الحزب الديموقراطي في ملف السياسات الخارجية، لاسيّما نحو الصين، من دون كلفة. هذا أقله الآن، وبحسب تقدير أدمغة أركان الحزب الديموقراطي.
شي جينبينغ بدوره استفاد لأن زيارة بيلوسي سمحت له بإعادة إثبات الأسس التي لا تتخلّى عنها الصين نحو تايوان، أي رفضها القاطع استقلال تايوان أو التخلّي عن سياسة “صين واحدة” إنما بلا انجرار الى مواجهة عسكرية جديّة يودّ الرئيس الصيني أن يتجنبها رغم الضغوط من أعلى مستويات القيادة في الصين. هذه القيادات تضغط نحو المواجهة مع الولايات المتحدة وهي تنظر الى زيارة بيلوسي على أنها استفزازية وتتطلّب الرد بإجراءات وليس فقط بمناورات عسكرية. شي جينبينغ يقاوم هذه الضغوط لأن الوضع الاقتصادي داخل الصين لا يتقبّل الآن مثل هذه المغامرة.
هذا لا ينفي خطورة الانزلاق بسبب هفوات. فالمسألة لا تنحصر برجُلين في الرئاسة وامرأة في مجلس النواب. وهنا كانت المغامرة بين طيّات الزيارة التاريخية التي قد لا تمر مرور الكرام في نهاية المطاف. ففي حكم الأوتوقراطية في الصين، ليس الرئيس بمفرده من يملي القرارات وإنما الحزب الحاكم. وهنا تكمن خطورة المجازفة.
التعايش بين نظامي الحكم الديموقراطي والحكم الأوتوقراطي يغلب على الصراع العقائدي بينهما، أقلّه حتى الآن. معركة الغرب مع روسيا لا تدخل في سياق المواجهة بين النظامين، رغم أقوال السيدة بيلوسي أو غيرها، لأن هذه معركة بين حلف عسكري اسمه حلف شمال الأطلسي (ناتو) وبين روسيا. أوتوقراطية أو استبداد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو تسلّطه ليست هي أسباب الحرب الأوكرانية، وإنما غزوه واحتلاله أجزاء من أوكرانيا ردّاً على ما اعتبره تهديداً للمصلحة القومية الروسية المتمثّل بنوايا التحاق أوكرانيا بحلف “الناتو”.
أما في ما يتعلّق بالمعركة العقائدية مع الصين، فتبدو الولايات المتحدة أكثر قلقاً من تحوّل الصين الى منافس يهدّد التفوق الأميركي العالمي على كل المستويات، ولقد عقدت الإدارات الأميركية العزم على منع الصين من الوصول الى مرتبة الدولة العظمى التي تتحدّى عالم أحاديّة القطب الأميركي. لا بد من أن هناك تأثيراً جذرياً للمعركة بين العقيدتين، الديموقراطية والأوتوقراطية، لكن هذه ليست الأسس للحرب التنافسية بينهما، عكس ما يدّعي دعاة الزعم بأن هذه معارك من أجل تفوّق الديموقراطية على الأوتوقراطية.
الجمهورية الإسلامية الإيرانية أفضل مثال على المراوغة في المواقف الأميركية نحو الأوتوقراطية، بل نحو نظام عقائدي مبني على التوسّع خارج حدوده، يقمع شعبه، أوتوقراطي بامتياز. لا الرئيس جو بايدن وفريقه ولا السيدة نانسي بيلوسي وفريقها يترددان في السعي وراء صفقة نووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية ولا يجرآن على طرح نظامها السياسي الداخلي أو عقيدة التوسّع الإقليمي للنظام على الطاولة. إنهما في تشوّق لصفقة رفع العقوبات وإلغاء سياسة “الضغوط القصوى” وإحياء اتفاقية JCPOA لتلقين الرئيس الأسبق دونالد ترامب دروس الانتقام منه ومن سياساته نحو إيران.
فلا مكان هنا للسيدة بيلوسي أن ترفع راية الدفاع عن الديموقراطية في وجه الأوتوقراطية، بل ما تقوم به الإدارة الديموقراطية هو العكس تماماً – إنه تمكين للنظام الأوتوقراطي في إيران. يحق للحزب الديموقراطي أن يقول إن التوصّل الى صفقة مع طهران هو في المصلحة الأميركية لأن نزع الفتيل النووي هو المطلوب علماً أن الشعب الأميركي لا يريد المواجهة العسكرية مع إيران. إنما من واجب الحزب الديموقراطي أن يشرح للشعب الأميركي أبعاد رفع العقوبات عن إيران بما يعزّز نظامها السياسي وعقيدتها الأوتوقراطية كما يعزّز المحور الثلاثي الذي يتم تشييده بين الصين وروسيا وإيران في ترويكا أوتوقراطية تهدّد الديموقرطية وتودّ سحقها.
وبالتالي، ان السيدة القديرة والمخلصة لحزبها، رئيسة مجلس النواب الأميركي، تسيء الى الشعب الأميركي الذي يمثّله مجلس الشيوخ والكونغرس، في غضّها النظر عن العنصر الإيراني في محور الأوتوقراطية التي تهدّد الديموقراطية فيما تنوي إدارتها إغداق رجال العقيدة والنظام في إيران بالأموال الضرورية لتوطيد الأوتوقراطية.
قد تكون الصفقة التي تتقدّم نحوها مفاوضات فيينا مفيدة كونها تنزع الفتيل النووي وتتجنّب المواجهة العسكرية التي لا بد من أن تجرّ إسرائيل بها الولايات المتحدة في حال اندلاعها مع إيران. إنما يجدر بالحزب الديموقراطي أن يتنبّه الى تداعيات غضّه النظر عن السياسات الداخلية والإقليمية للنظام في طهران، وإلا فإن الفائدة من الصفقة محصورة وموقتة قوامها الازدواجية في القيم التي يزعمها الحزب ونتيجتها تعزيز محور الأوتوقراطية.
المفاوضات بين طهران وكل من الولايات المتحدة والصين وروسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا تبدو عالقة بين طيّات الاقتراب من الإنجاز أو الوقوع في شباك الفشل. إيران اتخذت خطوات أخيراً أفادت بتراجعها التكتيكي عن شرط تقول الآن إنه لم يكن شرطاً، وهو شطب اسم “الحرس الثوري” عن قائمة الإرهاب. هذه خطوة تفيد بأن طهران تبحث عن صيغ للتوصّل الى الاتفاق النووي لأنه سيدرّ عليها الأموال التي هي في أشد الحاجة لها من أجل تسويق عقيدتها السياسية وحكمها الأتوقراطي ومكانتها في الترويكا مع الصين وروسيا. فهناك وسائل للتغلّب على عقدة “الحرس الثوري” الذي لا استغناء عنه أبداً لا في السياسة الداخلية ولا في السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهنا تبرز الحنكة السياسية الإيرانية التي تضرب بعرض الحائط ديموقراطية الأنظمة الغربية وتستفيد فقط من جزء من الرأسمالية منها.
لعل الوقت حان لتتوقف الإدارات الأميركية المتعاقبة عن الزعم أن حروبها كانت من أجل الديموقراطية، كما فعل الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش عند احتلاله العراق بذرائع مختلفة، وكما تفعل إدارة بايدن بحروبها “الديموقراطية” فيما صفقاتها لها رائحة مباركة الأوتوقراطية. فهذه ازدواجية مُكلِفة مهما استفادت منها الصناعات العسكرية والنفطية. فاقتضى التوسّل الى واشنطن: رجاءً الكف عن استغبائنا.