نجحت جهود الوساطة الدولية التي قادتها مصر وقطر في تحقيق وقف سريع لإطلاق النار بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة يوم الأحد 7 أغسطس/آب، وكان لافتاً سرعة التوصل إلى وقف إطلاق نار في غزة، عكس كثير من المعارك السابقة بين الطرفين.
واستمر القتال لمدة ثلاثة أيام، ارتقى خلالها 43 شهيداً، ومئات المصابين، وخلف العدوان على القطاع دماراً كبيراً في المباني السكنية، قبل أن يتم الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق نار في غزة برعاية مصرية وجهود قطرية.
فبعد خمسة أسابيع بالضبط من توليه منصب رئيس وزراء إسرائيل، سعى يائير لابيد، لافتعال أزمة مع حركة الجهاد، لاكتساب شعبية في مواجهة معايرة منافسيه الإسرائيليين له بأنه لا يملك سجلاً عسكرياً قوياً أو خبرة في المناصب الأمنية العليا، أو لتصنيفه مدنياً جاهلاً، عليه أن يترك هذه الأمور لمحترفين حقيقيين، حسب وصف صحيفة Haaretz الإسرائيلية.
ولكن يبدو أن لابيد خشي من أن تخرج الأمور عن السيطرة وتنقلب المغامرة الانتخابية عليه، ولذلك سعى للملمة المعركة، قبل أن تتسع.
قال الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، زياد النخالة، الأحد 7 آب 2022، إن المقاومة نجحت في فرض شروطها على الاحتلال الإسرائيلي خلال مفاوضات غير مباشرة بشأن وقف إطلاق نار في غزة، مؤكداً استعداد الحركة لاستئناف القتال في حال خرق الاحتلال الهدنة.
وقال النخالة، في مؤتمر صحفي من طهران، إن الاتفاق يتضمن تعهداً مصرياً، ولا ينطوي على أي تعقيدات أو بنود سرية، ويتمثل في “التزام إسرائيلي بإطلاق سراح الأسيرين خليل العواودة، والشيخ بسام السعدي”.
النخالة أوضح أن العواودة سيخرج مباشرة إلى المستشفى ثم إلى البيت, كما أكد أن الجانب المصري تعهد بالعمل على إطلاق سراح بسام السعدي في غضون أسبوع.
كما كشف الأمين العام للجهاد الإسلامي عن أن إسرائيل سعت بكل قوة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار عبر مصر والأمم المتحدة، مشيراً إلى أن الحركة بقيت مسيطرة على الميدان رغم الفرق في موازين القوى، وأضاف: “حركة الجهاد هي اليوم أقوى وكل مدن العدو كانت تحت مرمى صواريخ المقاومة”.
على الرغم من أن مناقشات وقف إطلاق نار في غزة كانت جدية، فإن كلا الجانبين كانا يعلمان أن الأمر قد يستغرق بعض الوقت. فالضربات التي تلقتها حركة الجهاد الإسلامي، ومقتل اثنين من كبار قادتها في غزة، كلها أمور أدت إلى تعقيد المحادثات بعض الشيء، وكان من الصعب على الحركة إنهاء القتال دون إنجاز عسكري ضد إسرائيل، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية.
وزاد من تعقيد صنع القرار في الحركة أن بعض مسؤوليها السياسيين موجودون في الخارج (عادة في سوريا، وحالياً في إيران)، وبعضهم الآخر في غزة.
ركزت إسرائيل هجماتها طوال الثلاثة أيام على الأهداف التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، ولم تشارك حماس مشاركة مباشرة في القتال، لكن إسرائيل كانت متخوفة من أنه إذا استمر القتال وتصاعدت الخسائر بين المدنيين الفلسطينيين، فإن ذلك قد يجعل من الصعب على حماس مواصلة ضبط النفس.
أجمع المسؤولون الحكوميون الإسرائيليون والخبراء العسكريون يوم السبت 6 آب على أن الأحسن لإسرائيل إنهاء القتال في أقرب وقت ممكن والعمل على تحقيق وقف إطلاق نار في غزة، نظراً لأن إسرائيل فوجئت إلى حدٍّ ما بالوتيرة المتصاعدة لنجاحها في إدارة العملية العسكرية، لا سيما بعد أن تمكنت من اغتيال اثنين من كبار قادة الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، إضافة إلى قائد وحدة التصدي للدبابات بالتنظيم، بحسب الادعاءات الإسرائيلية.
علاوة على ذلك، استندت إسرائيل في تقديراتها بنجاح العملية العسكرية إلى تمكُّنها من تحديد مكان كبار قادة حركة الجهاد، حتى أثناء هروبهم، وهو ما يشير إلى مستوى عالٍ من التنسيق بين جهاز الأمن العام (الشاباك) والاستخبارات العسكرية والقوات الجوية والقيادة الجنوبية للجيش الإسرائيلي, وعلى الجانب الدفاعي، قدمت بطاريات القبة الحديدية حماية كبيرة من الصواريخ القادمة من غزة، بحسب المزاعم الإسرائيلية.
ولكن رئيس الوزراء الإسرائيلي كان يخشى من حدوث تغيرات تقلب الطاولة عليه.
ومع ذلك، فإن كل هذه الأمور نجاحات تكتيكية قصيرة الأمد، وليس انتصاراً استراتيجياً حاسماً أو طويل الأمد، لأن أثر هذه النجاحات قد يؤول إلى الزوال في مدة يسيرة، سواء أكان ذلك بعملية فلسطينية ناجحة داخل إسرائيل، أو بهجوم بالقرب من حدود غزة، أو خطأ إسرائيلي يؤدي إلى مقتل عدد كبير من الفلسطينيين، ويستدعي انتقادات من المجتمع الدولي لإسرائيل، خاصة أن تل أبيب لم تلفت الأنظار هذه المرة، لأن وسائل الإعلام الدولية ظلت مشغولة عما تعتبره قتالاً معتاداً في غزة بالأحداث الجارية في أوكرانيا وتايوان.
كما أن دخول الجناح العسكري لحركة حماس “كتائب عز الدين القسام”، بترسانة صواريخ الأكثر عدداً والأطول في المدى من تلك التي بحوزة سرايا القدس الجناح العسكري للجهاد، يمكن أن يؤدي إلى مشكلة للابيد، خاصة إذا توسعت في استهداف تل أبيب ومطارها.
وإذا تدخلت حماس بإطلاق عدد كبير من الصواريخ فإن هذا سيقلل من فاعلية القبة الحديدية، التي تقول تل أبيب إنها تسقط نحو 95% من الصواريخ، ولذا تتغلب حركات المقاومة الفلسطينية عليها بإطلاق أعداد كبيرة من الصواريخ والقذائف للوصول بالقبة لحد التشبع وتشتيتها، والأهم ما تخشاه إسرائيل من تطور طائرات المقاومة الفلسطينية المسيرة، وقدراتها المحتملة على مراوغة القبة الحديدية.
إضافة إلى ذلك، فإن ثمة مناطق أخرى يسودها بعض الهدوء في الوقت الحالي، مثل القدس والضفة الغربية ومدن الداخل المختلطة بين اليهود وفلسطينيي 48، إلا أنها عرضة للانفجار واضطراب الأوضاع في أي وقت، وقد باءت بالفشل حتى الآن محاولات الاستفزاز التي يقوم بها نائب الكنيست الإسرائيلي إيتمار بن غفير وأقرانه من المستوطنين المتطرفين في الحرم القدسي، لكنه هدوء محكوم بالحراسة المشددة من الشرطة الإسرائيلية.
لم تكن إسرائيل تتوقع الرد العنيف الذي صدر عن حركة الجهاد الإسلامي بعد اعتقال مسؤولها البارز في جنين، الشيخ بسام السعدي، الأسبوع الماضي. ولما كان السعدي قد اعتقل ست مرات على الأقل من قبل، فيبدو أن إسرائيل ظنت أن الاعتقال السابع لن يستدعي غضباً كبيراً. وقد تبيَّن بالطبع أن هذه التوقعات كانت خاطئة.
وبدا واضحاً القلق الإسرائيلي من ردة فعل الجهاد، في مسارعة سلطات الاحتلال في نشر صورة لبسام السعدي وهو في الأسر يظهر فيها سليماً معافى في محاولة لامتصاص الغضب الفلسطيني من نشر صورة لدماء في منزله خلال عملية أسره، والحديث عن تعرض زوجته لاعتداء من جنود الاحتلال.
خلاصة القول إن تل أبيب كانت تسعى من خلال هذه العملية للضغط على حماس في المقام الأول لإجبارها على بذل المزيد من الجهود لكبح النشاط العسكري لحركة الجهاد الإسلامي ضد إسرائيل في المستقبل، ولكن من الواضح أن حماس لم تفعل.
غاب عن هذه العملية تقريباً الطلب المعتاد من بعض الإسرائيليين في العمليات العسكرية من هذا النوع: إرسال قوات برية إسرائيلية لاكتساح غزة. وقد يكون السبب الواقعي لذلك أن حركة الجهاد الإسلامي أصغر من حماس، وأن توجيه ضربة كبيرة لها لا يقتضي غزو القطاع. لكن الأمر يرجع أيضاً إلى تراجع استعداد الإسرائيليين لقبول الخسائر العسكرية.
ومع ذلك، فقد أثيرت المناقشات بشأن توجيه ضربة استباقية إسرائيلية ضد حماس مرتين على الأقل منذ العام الماضي. وكان أولها بعد حرب “سيف القدس” في مايو/أيار، فقد جادل مسؤولون عسكريون (منهم مدير الشاباك آنذاك، نداف أرغمان) بأن الأولَى بإسرائيل بعد المعركة أن تهاجم حماس لمنعها من إعادة بناء قوتها العسكرية في غزة.
وكانت المرة الثانية بعد تصاعد العمليات الفلسطينية في الضفة الغربية والداخل المحتل هذا الربيع، فقد دفع ذلك نفتالي بينيت، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إلى التفكير في شن حملة عسكرية على غزة، لكن الفكرة واجهت مقاومة كبيرة من قيادات الجيش الإسرائيلي.
من المسائل الأخرى التي أثيرت في إسرائيل بعد وقف إطلاق نار في غزة، هو التوجه الذي اتخذته حكومة نفتالي بينيت ويائير لابيد تجاه غزة منذ الأشهر الأولى لهما في السلطة.
زعمت السلطات الإسرائيلية أنها أزالت بعض القيود المفروضة على إدخال البضائع إلى غزة، للسماح بتنفيذ بعض المشروعات وإعادة تأهيل البنية التحتية المدنية في القطاع، وأنها سمحت أيضاً لنحو 14 ألف فلسطيني من سكان غزة بالعمل في إسرائيل، وتعهدت بزيادة هذا العدد إلى 20 ألفاً في حالة الحفاظ على الهدوء في القطاع. واستندت هذه الخطوات إلى زعم من حكومتي بينيت ولابيد بأن تحسين الوضع الاقتصادي في غزة سيحمل حماس على ضبط الأمن مدة طويلة، ومنع الهجمات من الفصائل الأخرى.
هذا الافتراض الإسرائيلي ثبت خطؤه الأسبوع الماضي، فقد كانت حركة الجهاد الإسلامي تستعد لهجمات على إسرائيل، بحسب المزاعم الإسرائيلية. ويستدعي ذلك التشكيك في صحة تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية، والبحث فيما إذا كانت حماس تتَّبع خطة مزدوجة، فهي من جانبٍ تومئ لحركة الجهاد الإسلامي بمهاجمة إسرائيل في بعض الأحيان، ثم تزعم بأنها غير قادرة على كبحها من الجانب الآخر.
قد تكون حركة الجهاد خسرت عدداً من قيادييها، ولكن في المقابل، فإن مسارعة إسرائيل لقبول وقف إطلاق نار في غزة، تؤشر لوجود متغير جديد دخل في المعادلة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي وهو أن اعتقال قيادات فلسطينية من الضفة لن يمر مرور الكرام كما كان يحدث في السابق