كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
فقدان العملة الوطنية اللبنانية قيمتها ليس أمراً جديداً على الواقع اللبناني. الليرة التي كانت مضرب مثل في ستينات وسبعينات القرن المنصرم، يُشبّه كلّ قويّ وثابت ومستقرّ بها، إنهارت مطلع الثمانينات، فتراجعت قيمتها مقابل الدولار من 374 ليرة في العام 1983، إلى 2755 ليرة في العام 1993. هذا التراجع المقدّر بـ735 ضعفاً، أوجب طباعة فئات جديدة من العملة الورقية بأرقام كبيرة جداً لم تكن تخطر في بال أحد سابقاً، وصلت حتى 100 ألف ليرة.
من بعد فترة هدوء مصطنع إستقرّ فيها سعر صرف الليرة مقابل الدولار على 1500 ليرة، عادت العملة الوطنية لتخسر من قيمتها مع نهاية العام 2019. التراجعات بلغت أقصى مداها في 27 أيار الفائت، حين وصل سعر صرف الدولار إلى 38 ألف ليرة، ليعود ويستقرّ لغاية اليوم عند متوسط 30 ألف ليرة. وعليه أصبح يتطلب سداد ثمن سلعة ما، بقيمة 1000 دولار مثلاً، حمل 300 ورقة من فئة 100 ألف ليرة، بدلاً من 15 ورقة فقط عندما كان سعر الصرف 1500 ليرة.
تعديل “النقد والتسليف”
أمام هذا الواقع المرشح للتفاقم أكثر، تقدّم عضو تكتل “الجمهورية القوية” النائب زياد حواط باقتراح قانون معجّل مكرّر، يرمي إلى تعديل المواد 3 إلى 8 ضمناً، من قانون النقد والتسليف، وإنشاء المصرف المركزي. المواد المراد تعديلها تتعلق بـ”سمات النقد الوطني”، حيث تجيز المادة الخامسة إصدار الأوراق النقدية من فئات الليرة الواحدة، الخمس ليرات، الخمسين ليرة، المئة ليرة، المئتين وخمسين ليرة، الخمسمئة ليرة، الألف ليرة، الخمسة آلاف ليرة، العشرة آلاف ليرة، والخمسين ألف ليرة، والمئة ألف ليرة. وعليه من المطلوب بحسب اقتراح القانون “إيجاز إصدار أوراق نقدية من فئات أكبر من 100 ألف ليرة”.
إيجابيات زيادة الأصفار على العملة
الهدف من القانون هو توفير حلول عملية بعدما أصبح مجمل التعامل يتم بالأوراق النقدية. فالبطاقات المصرفية مرفوضة في أكثر نقاط البيع، والشيكات غير مرغوبة ولا تقبل المصارف بوضعها في الحساب أغلب الأحيان. والسواد الأعظم من المواطنين يبدّل الدولارات إلى ليرات سواء كان ذلك عبر تعاميم مصرف لبنان (151، 158، 161) أو عند الصرافين، ولا يوجد لغاية اللحظة بديل عن التعامل بالليرة. فـ”أيّهما أفضل حمل رزم الأموال بالأكياس لشراء أبسط الحاجيات؟ أم التوقف عن النكران وطباعة أوراق نقدية من فئة 500 ألف أو مليون ليرة، توفر على المواطنين مخاطر السرقة، وعدّ النقود… وغيرها الكثير من المعوقات غير العملية؟!”، يسأل النائب حواط. فـ”المهم أن نكون واقعيين وألا تبقى طروحاتنا وكأننا نعيش على غير كوكب. فمشكلة انهيار الليرة وفقدانها أكثر من 95 في المئة من قيمتها، أو تراجعها 20 ضعفاً، وقعت. وعلينا أن نبدأ بمعالجات التداعيات الناتجة عنها، ومنها إيجاد فئات أكبر من العملة، لتسهيل التعامل بين المواطنين. وبرأي حواط إن “كل رفض للطرح إنطلاقاً من أنه يشكل اعترافاً بالتضخم هو محض شعبوي، يجافي الواقع ولا يخدم أحداً”. فالتضخم حاصل ومن غير الممكن العودة بالتاريخ إلى زمن 1500 ليرة. والأمور تتطلب معالجات عملية وعلمية بعيدة عن الإنكار.
مخاطر تسارع الإنهيار
العودة بالتاريخ إلى حقبة ما قبل الحرب اللبنانية، وتتبّع مسار سعر صرف الليرة مقابل الدولار منذ بدء الأزمة الاقتصادية، يظهران صوابية طرح النائب حواط. فبحسب دراسة مقارنة لمؤلف كتاب “انهيار الليرة بين عامي 1982 و1992″، د. فادي خلف، يظهر أن “الدولار ارتفع في أول عام من الأزمة أي في العام 2019 بنسبة 46 في المئة، فيما وصلت نسبة الارتفاع في العام 2020 إلى 295 في المئة، وتراوحت بين 200 و250 في المئة في العام 2021. وبحسب هذا التسارع، فقد يتجاوز ارتفاع الدولار النسب المئوية المسجلة خلال الحرب”. وعليه فقد نصل إلى مرحلة تعادل فيها قيمة 100 ألف ليرة الـ1000 ليرة.
محاذير زيادة الأصفار على العملة
في المقابل فإن التسليم بهذه الارتفاعات يعني ببساطة “عدم وجود أمل بمعالجة الخلل البنيوي في الإقتصاد اللبناني”، برأي الباحثة في الاقتصاد النقدي د. ليال منصور. فـ”عملية زيادة الأصفار على النقد الوطني يترتّب عليها برأي منصور انعكاسان مباشران:
الأول إيجابي عملي، يتلخّص بتخلص المواطنين من مشقة حمل كميات كبيرة من النقود. ويوفر على الدولة كلفة طباعة النقد. حيث تكلف طباعة ورقة 1000 ليرة اليوم أكثر من قيمتها الفعلية. في حين أن المعدل العام يفترض أن تكلف طباعة الورقة 10 في المئة من قيمتها.
الثاني نفسي سلبي، حيث إن إصدار أوراق نقدية من فئات أكبر من الحد الأقصى الموجود لدينا اليوم يشكل اعترافاً مباشراً من قبل السلطتين السياسية والنقدية بأمرين بالغي الخطورة، وهما:
– العجز عن مكافحة التضخم. حيث إن تخفيض الأخير بالسياسات الصحيحة يعيد لليرة قيمتها الشرائية.
– إن الأزمة طويلة، ومفاعيلها السلبية التي منها فقدان الليرة 95 في المئة من قيمتها الشرائية، قد لا تنتهي حتى مع إقرار الخطة الاقتصادية.
طباعة أوراق نقدية بفئات كبيرة تمثّل من وجهة نظر منصور “التوقف عن مقاومة التضخم، والتسليم بالأمر الواقع غير المرغوب فيه. وهي تشبه بذلك، مريض السمنة الذي يخسر معركته مع النحافة بمجرد قبوله شراء ملابس بقياسات أكبر. وهذا لا يؤثّر فقط على عدم خسارته الوزن إنما يهدد في المقابل بزيادة وزنه بنسب أكبر، لأن المريض تعايش مع المرض وأصبح بالنسبة له أمراً طبيعياً”. الأمر نفسه يحصل برأي منصور مع التضخم، “حيث يكون الانعكاس النفسي لطباعة أوراق نقدية بفئات أكبر وأخطر على تدهور سعر الصرف. وعلى الرغم من أن هذه الاوراق لا تؤثر على حجم الكتلة النقدية، إنما آثارها النفسية تترجم زيادة بسعر الصرف. وبالتالي المزيد من انهيار القيمة الشرائية لليرة اللبنانية”.
بين زيادة الأصفار وحذفها
في الوقت الذي يعود فيه اعتزام لبنان زيادة أصفار على أوراقه النقدية للعام الماضي من أجل مواكبة التضخم وفقدان الليرة قيمتها الشرائية، عمدت مجموعة من الدول إلى إزالة الأصفار عن أوراق عملتها. الفرق الكبير بين الإجراءين من حيث الشكل، يقابله تشابه كبير في المضمون. فالهدف في النهاية واحد، وهو: التخلص من حمل كميات كبيرة من الأوراق، وتسهيل التعاملات اليومية بالنقد الوطني. إلا أن وقع إزالة الأصفار قد يكون أكثر ايجابية على الصعيد المعنوي، و”هو عادة ما يحدث في بداية المراحل التأسيسية أو المبادرات والخطط الجديدة”، من وجهة نظر منصور.
الإصلاح هو الأساس
مع الأسف فإن الإجراءين الشكليين لم يفيدا الاقتصادات المنهارة. فنزويلا على سبيل المثال حذفت في غضون 13 عاماً 14 صفراً من عملتها البوليفار، على 3 مراحل. ومع هذا بقيت القيمة الشرائية للبوليفار الحالي لا تساوي شيئاً. أما زيمبابوي فقد وصلت بها الأمور لطباعة ورقة 100 تريليون دولار محلي، والتي لم تساوِ فعلياً على أرض الواقع 40 سنتاً أميركياً. وفي جميع الحالات فإن أغلب الدول التي تضطر إلى زيادة الأصفار تجد نفسها في نهاية المطاف ملزمة بإزالتها. وبالإضافة إلى تجربة كل من الدولتين المذكورتين فهذا ما حدث أيضاً خلال العقود الثلاثة المنصرمة مع الجزائر، إيران، السودان، بوليفيا، رومانيا وتركيا. كلها لجأت إلى حذف الأصفار بعد زيادتها.
تغيير أحجام العملات ورقياً قد يفيد آنياً ويزيل بعض العقبات أمام الاستعمال، إلا أنه لا يغني عن الإصلاح. فبمجرد استعادة الثقة، وعودة دولة القانون والمؤسسات، ووضع أنظمة سعر صرف مستقلة مرنة وموثوقة… تتحسن قيمة العملة تلقائياً ولا يعود من مبرر لتغيير شكلها. فأيّهما يسبق في لبنان تجربة فنزويلا وزيمبابوي أو الإصلاح؟!