فضيحة جديدة خرجت إلى العلن في لبنان، تمثلت بـ”تبخر” كمية كبيرة من دواء مرضى السرطان المناعي Obdivo المقدم هبة من منظمة “ANERA” الأميركية إلى وزارة الصحة اللبنانية، فالكمية التي كان يفترض أن تكفي حوالى شهرين ونصف الشهر، لم يبق منها شيء بعد أسبوعين!.
يعتبر دواء Obdivo من أهم العلاجات المناعية لما له من دور كبير في شفاء مرضى السرطان حتى وإن كانوا في المرحلة الرابعة من المرض، بحسب ما يؤكده هاني نصار، رئيس جمعية “برباره نصار” لدعم مرضى السرطان، ويشدد “عندما يسرق الدواء الذي لا قدرة للمرضى على شرائه بسبب ثمنه المرتفع الذي يتجاوز الألفي دولار، يعني أن حكماً بالإعدام صدر على مرضى السرطان، لاسيما وأن خيار شرائه من تركيا بات يشكل خطراً نتيجة انتشار النسخ المزورة، عدا عن أن طريقة تبريده تحتاج إلى عناية كبيرة”.
أرخت الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان بظلالها على مختلف القطاعات بما فيها قطاع الدواء، ومنذ حوالي العامين تتوالى صرخات مرضى السرطان للمطالبة بأدنى حقوقهم ألا وهي تأمين أدويتهم، لتبدأ الوعود من المسؤولين بأن الأزمة ستحل في القريب، من دون أن يترجم أي منها على أرض الواقع، لا بل حتى عند تحرك دول خارجية لمساعدة المرضى من خلال إرسال أدوية لهم، تجري “قرصنتها” في الداخل!
يذكر أن لبنان سجل 28,764 ألف إصابة بمرض السرطان خلال السنوات الخمس الأخيرة، بينهم 11600 حالة عام 2020، بحسب تقرير نشره “المرصد العالمي للسرطان” المنبثق عن منظمة الصحة العالمية، في مارس من عام 2021.
نتيجة “عكسية”
قسّمت المنظمة الأميركية هبتها كما يقول نصار لموقع “الحرة” بين مستشفى الجامعة الأميركية ووزارة الصحة، ويشرح “كان الهدف من هذه الهبة إنقاذ حياة المرضى لكن بدلاً من ذلك جرى المتاجرة بها من قبل موظفين في الوزارة هم عبارة عن مافيات تابعة لأحزاب همّها الأول جني الأرباح من دون أدنى مبالاة بأرواح الناس، فتم بيع الدواء في السوق السوداء الذي وسّع انتشاره إلى بعض الصيدليات، والجزء الآخر هرّب إلى سوريا كما جرت العادة”.
لا يقتصر الأمر على عدم تحقيق الهبة لهدفها، والتي كان من المقرر أن يستفيد منها مرضى الضمان كذلك بقرار استثنائي من الوزير، بل في بلد كلبنان جاء الأمر معاكساً، إذ كما يقول نصار “لم يطلب وزير الصحة كمية كبيرة من هذا الدواء من الوكيل على اعتبار أن هناك كمية ستكفي مدة شهرين ونصف الشهر، من هنا بدلاً من أن يكون متوفراً في السوق سيعاني المرضى من صعوبة كبرى في العثور عليه”.
ينخر الفساد، كما يؤكد رئيس الهيئة الوطنية الصحية الاجتماعية- الصحة حق وكرامة، النائب السابق، الدكتور اسماعيل سكرية، وزارة الصحة اللبنانية منذ حوالي الثلاثة عقود، ويقول “يجري بيع الأدوية في السوق السوداء بالتواطؤ مع موظفين في الوزارة، وهذا ليس مجرد كلام، بل مثبت في وثائق نشرتها في كتابين، فقبل 25 عاماً بدأت أتابع هذا الملف في مجلس النواب وخارجه، حيث مرّت العديد من الأحداث المشابهة والموثقة في كتابيّ، وبنتيجة ذلك، تقدمت بدعاوى لا تزال تغط نوماً في قصر العدل، من هنا لم أتفاجأ بالفضيحة الجديدة”.
طرح سكرية أمثلة عن قضايا فساد سبق أن حصلت منذ سنوات منها “تهريب أدوية سرطان من الكرنتينا وبيعها في السوق السوداء، وإحراق ملفات وهمية لمرضى سرطان كان يجري بيع أدوية بأسمائهم وذلك قبل وصول التفتيش المركزي”، ويضيف “برامج عدة أخذتها الأمم المتحدة على عاتقها بمليارات الدولارات كلها تبخرت نتيجة التنفيعات والسمسرات والسرقات والفساد، كما يكفي الإشارة إلى أن استحداث طابق واحد في مستشفى بعلبك الحكومي كلّف 4 ملايين دولار من أموال قرض من البنك الدولي”.
بعد الاتهامات التي تم توجيهها إلى وزارة الصحة، أشارت المسؤولة الإعلامية في الوزارة، روا الأطرش، لموقع “الحرة” إلى أنه “تم فتح تحقيق بالقضية ولا معطيات حتى اللحظة، وسيصار إلى إصدار بيان بعد الانتهاء من ذلك”، وهو ما أكده نصار، الذي شدد على أن جمعيته ستبقى العين الساهرة التي تتابع كل دواء سرطان يصل إلى لبنان لمنع حرمان المرضى منه من قبل المافيات، “لن نسمح بتطبيق المثل السائد، المال السائب يعلّم الناس على الحرام”.
المشكلة الأساسية فيما يتعلق بملف الدواء، بحسب ما قاله وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال فراس أبيض “تكمن “في التمويل”، حيث لفت في حديث إذاعي إلى أنه “يجري العمل على زيادة التمويل والتأكد من عدم حصول أي سوء استخدام من هدر أو فساد” مشيراً إلى أنّ “المساعدات الدوائية التي تصل لبنان هي من جمعيات أميركية أو لبنانية في الاغتراب وليست هناك مساعدات حكومية أميركية”.
ويوم أمس الخميس، أعلن أبيض، بعد لقائه رئيس الحكومة المكلف، نجيب ميقاتي، أنه “تم الاتفاق على إصدار التمويل للأشهر الثلاثة المقبلة، وزيادة في التمويل بمقدار خمسة ملايين دولار أميركي في الشهر، وستكون مخصصة لزيادة المبالغ لأدوية أمراض السرطان والأمراض المستعصية. ومن خلال هذه المبالغ التي أضيفت إلى التمويل وكذلك من خلال عملية المكننة، نتأمل بأن نحل بشكل كبير هذا الأمر والنواقص التي نراها والتي يعاني منها المواطن”.
وأكد وزير الصحة “بدء العمل لمكننة أدوية السرطان. هناك عدة مستشفيات تدربت على الأمر، وفي بداية شهر سبتمبر، هناك أدوية ستدخل في عملية التتبع التي نقوم بها، وهذه عينة للتأكد من أن النظام الذي قمنا به لا عيوب فيه ولا خلل فيه، وسيتم توسيعه ليعمل بقية الأدوية”.
هبات في مهب الريح
بعد أيام قليلة على فضيحة دواء الـxtandi الخاص بمرضى سرطان البروستات، خرجت فضيحة دواء Obdivo إلى العلن، فالإثنان اختفيا من الوزارة من دون أن يستفيد منهما المرضى، ورغم كل الفضائح إلا أن المواطن لم يسمع بمحاسبة أحد.
وفق منظمة التجارة الدولية، “يستورد لبنان نحو 80 في المئة من منتجاته الصيدلانية، وينفق أكثر من مليار دولار سنوياً” وشرحت في تقرير صدر الشهر الماضي أن “الأدوية الحاصلة على براءات اختراع تشكل حوالي 50 في المئة من السوق، فيما تشكل الأدوية التي لا تحتاج إلى وصفة طبية (OTC) والأدوية العامة حوالي 25 في المئة لكل منهما.
وبحسب الجمارك اللبنانية، بلغ إجمالي واردات الأدوية إلى لبنان 900 مليون دولار في عام 2021، منها 106 ملايين دولار من الولايات المتحدة”.
بعد رفع الحكومة اللبنانية دعمها عن معظم الأدوية سواء جزئياً أو كلياً (من دون المسّ بأدوية السرطان التي لا تزال مدعومة بشكل كامل)، قالت منظمة العفو الدولية في ديسمبر الماضي إن “السلطات اللبنانية تتقاعس عن حماية الحق في الصحة والحياة للمواطنين في خضم أزمة مستمرة جعلت المرضى غير قادرين على تحمل تكاليف الأدوية الأساسية، أو الحصول عليها”.
وقالت لين معلوف، نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية “منذ عام 2019، تتالت الأزمات على الشعب اللبناني، وها هو اليوم يتخبّط وسط أزمة صحية أحدثتها الحكومة. إن رفع الدعم عن الأدوية من دون ضمان وجود إطار للحماية الاجتماعية يضمن وصول المرضى إلى الأدوية الأساسية هو فعل من أفعال الاستهتار البالغ”.
وأضافت “تقاعس الحكومة عن التعامل مع أزمة الدواء أمر لا يُغتفر.. ينبغي أن تسارع إلى اتخاذ تدابير عاجلة لمعالجة أزمة الأدوية وتأثيرها على الناس، وقد تشمل التدابير إعادة دعم الأدوية الأساسية، والعمل مع شركات الأدوية والجهات المانحة الدولية لضمان إمدادات يُعوّل عليها من الأدوية الأساسية”، ورغم مرور كل هذا الوقت لا يزال اللبنانيون يعانون من مشكلة فقدان الدواء!
منذ بدء أزمة الأدوية، تسلم لبنان هبات من دول عدة، منها الشهر الماضي، دواء Ferinject المستخدم لعلاج نقص الحديد وفقر الدم لدى مرضى السرطان جراء العلاج الكيميائي، المقدم من شركتي “حكمة” و Vifor السويسرية، حيث بلغت قيمة الهبة نحو 400 ألف دولار، وفي سبتمبر الماضي تسلم لبنان أدوية بقيمة 1.6 مليون دولار لمرضى سرطان الأطفال هبة من زوجة حاكم الشارقة، الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي.
في الأمس ذكرت السفارة الأميركية في لبنان من خلال تغريدة عبر “توتير” أن لبنان استلم مؤخراً “شحنة من أدوية السرطان والأمراض المزمنة والصحة النفسية تقدر قيمتها بـ ٥ ملايين دولار في إطار المساعدات من مؤسسة People to People Aid Corp الأميركية، بالشراكة مع DirectRelief و mapintl”.
وفي كلمتها بالمناسبة، قالت السفيرة دوروثي شيا “تمثل هذه الأدوية الأمل لمرضاكم، بالإضافة إلى آخرين في جميع أنحاء لبنان، لكن الأدوية تمثل أيضاً الروابط بين شعبينا، هذا ليس تبرعاً من السفارة الأميركية بل يأتي مباشرة من الشعب والمنظمات الأميركية، لكننا في السفارة الأميركية سعداء بالمساهمة في تسليط الضوء على هذه القيم المشتركة التي تقود الأميركيين إلى المساعدة بهذه الطريقة”.
أضافت السفيرة الأميركية “إن إنجازكم في جمع وتقديم هذه الأدوية المنقذة للحياة إلى لبنان مثير للإعجاب، هذه واحدة من الطرق العديدة التي تدعم بها الولايات المتحدة حكومة وشعباً لبنان، نحن في هذا معاً”.
لكن ماذا عن الوعود المتواصلة من قبل وزير الصحة بقرب حلّ أزمة أدوية السرطان ووصول جزء منها بين الحين والآخر؟ عن ذلك علّق نصار “نعم تصل الأدوية لكن بكميات قليلة، فمثلاً يجري تأمين 5 منها من أصل 450 دواء مسجل في لبنان”، وللخروج من هذه الدوامة دعا نصار إلى “الإسراع بمشروع المكننة، وزيادة الميزانية المخصصة لوزارة الصحة في الموازنة العامة، كي لا يبقى مريض من دون دواء”
يدفع المرضى ثمن سرقة الدواء وبيعه في السوق السوداء، فالمريض الذي ينتظر جلسة علاجه ولا يتوفر دوائه لأسابيع فإن ذلك سيؤدي كما يقول سكرية إلى “تسريع موته، وهذا أبشع أوجه الإنهيار كونه يتعلق بصحة الناس، أما أسبابه فأعمال الفساد الهائلة المتراكمة منذ عقود، يقابلها غياب ثقافة المواطنة وبالتالي المحاسبة والمساءلة، نتيجة انجرار معظم المواطنين نحو العصبيات الطائفية والسياسية، التي تخطف عقولهم حتى عن حقوقهم بصحتهم”!