كتب عوني الكعكي
لا شك في أنّ للحرب الروسيّة – الأوكرانية تداعياتها الواضحة على عملية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و”إسرائيل”… فهذه الحرب أوجدت بالتأكيد صراعاً محموماً على مصادر الطاقة، وخصوصاً الغاز الطبيعي الذي تتعطش له القارة الأوروبية وحتى الولايات المتحدة، ما ينذر باحتمال إعادة رسم خارطة المنطقة برمّتها..
ولنعد بالذاكرة الى أيام قليلة خلت، يوم انتشر خبر تفعيل روسيا لمنظومة الدفاع الجوّي “اس-300” في سماء سوريا عقب غارة إسرائيلية… في حينه أكد وزير الدفاع الاسرائيلي بيني غانتس في بيان “انها كانت سابقة في العلاقات بين الجيشين الروسي والاسرائيلي”. وتزامناً كانت وزارة العدل الروسية تتقدم بدعوى ضد “الوكالة اليهودية” التي تدعم المهاجرين الى اسرائيل، وتتهمها موسكو بانتهاك القوانين الروسية.
لقد حاولت اسرائيل -ولا تزال- استعجال ملف الغاز، أي قبل فصل الشتاء، ليكون موعد نقل الغاز الى القارة الأوروبية… ملف الغاز هذا تعتمده روسيا لإخضاع القارة العجوز… وانتزاع اعتراف أوروبي يثبت مكانتها في القارة، فتتخطى العقوبات وتعيد ضمان أهميتها كشريك لأوروبا “لا غنى عنه” في مجال الطاقة. وتسعى روسيا الى ذلك من خلال وقف ضخ الغاز الى حدوده الدنيا… وقد خفضته بالفعل قبل أيام قليلة الى نحو 20 في المئة عبر خط “نوردستريم” عارضة على ألمانيا ومجمل الدول الاوروبية بشكل موارب التزوّد من هذا الغاز عبر خط “نوردستريم -2” المجمّد نتيجة العقوبات.
بداية لا بد لي من التوقف عند قصة خطوط الترسيم المقترحة… لانتهي بما آلت إليه الأمور في ما بعد.
لقد أخذ التناقض في موقف لبنان الرسمي حول ملف ترسيم الحدود البحرية بين الخط 23 بدلاً من الخط 29 كحدود نهائية لمنطقة لبنان البحرية… مداه الواسع، ففي العام 2007 وقّع لبنان اتفاقية مع قبرص لترسيم الحدود البحرية بينهما، وفي العام 2008 تمّ تشكيل لجنة مشتركة لوضع تقرير مفصّل حول حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة للدولة اللبنانية، توصلت بنتيجة أعمالها بتاريخ 29 نيسان عام 2009 الى وضع تقرير، عيّنت بموجبه إحداثيات الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة متمثلة بالخط 23.
وفي العام 2012 قامت الولايات المتحدة عبر سفيرها فردريك هوف بتقديم اقتراح بترسيم الحدود البحرية، من خلال رسم خط عُرِف حينه بخط هوف يقع بين الخط 23 والخط واحد الذي اقترحته اسرائيل. هذا الخط يعطي لبنان حوالى 490 كلم2 والعدو الاسرائيلي 370 كلم2. إلا ان اقتراح هوف لم يمرّ.
في حزيران 2011 وقبل 4 أشهر من إصدار المرسوم 6433 تبيّـن ان الخط 23 غير دقيق، ويحق للبنان بمساحة أكبر من 860 كلم2… وفي العام 2013 بيّـن الوفد اللبناني المفاوض برئاسة العقيد الركن مازن بصبوص أحقية لبنان بالخط 29.
أذكّر هنا بأنّ جبران باسيل هو الذي اخترع الخط 29… لكن تبيّـن في ما بعد ان باسيل حاول من خلال سفير لبنان في واشنطن غابي عيسى تقديم تنازلات مدفوعة الثمن بالسياسة لحصد ثمن تنازله وتعود القصة الى ان الاميركيين أدركوا ان اللبنانيين غير جدّيين بالخط 29، واستنتج الاميركيون ان اللبنانيين يقومون بلعبة معيّنة يتم تمريرها… ففرضت العقوبات على باسيل بعد سلسلة تراكمات…
وأثارت العقوبات الاميركية على الصهر غضب عون تأييداً لصهره العزيز وصدر بيان من قصر بعبدا يقول: “لا يمكن أن نفاوض على أساس 29 وفي الأمم المتحدة 23”. فلم يوقع المرسوم 6433… والسبب الخفي ان أميركا لم ترفع العقوبات عن باسيل، لذا امتنع فخامته عن توقيع تعديل المرسوم.
ونعود الآن الى السؤال المحوري: لماذا تسرّعت مفاوضات الترسيم “وما عدا ما بدا”؟
هذا يحيلنا بطبيعة الحال الى ملف ترسيم الحدود بين لبنان و”اسرائيل”، الذي شهد ولا يزال يشهد منذ مدّة ضغوطاً كبيرة، تمارس على السلطات اللبنانية من دول أوروبية والولايات المتحدة، من أجل تمريره سريعاً.. يتقدّم تارة ويتعثر مرة أخرى وصولاً الى زيارة المبعوث الاميركي في مجال الطاقة آموس هوكشتين الأخيرة..
إنّ ما تعانيه أوروبا من أزمة غاز ونفط حادة شكلت ضغوطاً على الأطراف كافة لتسريع المفاوضات..
ففي ألمانيا احتاجت الدولة الى خفض استهلاكها من الغاز أكثر من أي دولة أخرى في الاتحاد الاوروبي من أجل تحقيق هدف التوفير في الاستخدام… وكان يجب على ألمانيا أن تجد بوسيلة أو بأخرى طريقة لتوفير عشر مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي بين بداية آب الفائت وآذار من العام المقبل.
ونظراً لارتفاع مستوى استهلاكها للغاز، فإن ألمانيا أكبر اقتصاد في أوروبا مطالبة بتحقيق عمليات توفير أكبر من أي دولة أوروبية أخرى وهي تريد تخفيض استهلاكها بنسبة تراوح بين 14 و15٪.
الى ذلك، ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا بنسبة تزيد على 21٪.
من جهته، قال وزير الصناعة والتجارة التشيكي جوزيف سيكيلا إنّ الرئيس بوتين أخفق في تقسيم الاتحاد الاوروبي. علماً بأنّ هناك دولاً في الاتحاد الاوروبي، يمثل الغاز والنفط الروسيان عصب الحياة فيها كالمجر التي تستورد 65٪ من نفطها من روسيا و80٪ من غازها كذلك فرنسا التي كانت قد أعلنت أيضاً رفضها لخطة الاتحاد الاوروبي بتخفيض الغاز.
من جانبه، قال وزير الطاقة البرتغالي خولو غالامبا إنّ الحكومة البرتغالية لن تدعم الخطة الهادفة الى خفض الطلب الاوروبي من الغاز بنسبة 15٪…
أما بلجيكا فقد عارضت بدورها الخطة الاوروبية.
وَلْنَعُد الى دور “حزب الله” في لبنان، الذي كان يردّد على الدوام أنه خلف الدولة اللبنانية. وأنه يدعم أي قرار تتخذه الحكومة اللبنانية… إلاّ أنّ هذا الخطاب تبدّل قبل مدّة… هذا التبدّل الذي برز بشكل واضح وفاضح خلال مقابلة تلفزيونية أُجرَيت مع الامين العام للحزب السيّد حسن نصرالله… يومذاك قال السيّد حرفياً: “إنّ الدولة اللبنانية عاجزة عن اتخاذ القرار المناسب الذي يحمي لبنان وثرواته… ولذلك فإنّ المقاومة مضطرة الى اتخاذ القرار”.
بعبارة أخرى أشد وضوحاً فإنّ السيّد حسن حاول ربط عملية “ضخ الغاز” الى القارة الاوروبية، بتعقيدات ملف المفاوضات اللبنانية.
هذا التبدّل في النبرة، وما يستتبعه من قفز في التعابير من “خلف الدولة” الى “أمام الدولة”، لم يطرأ إلاّ بعد قمة طهران.
المطّلع على سلوكيات الحزب وأدبياته السياسية والعسكرية يستدرك ان المصلحة اللبنانية قد تكون في آخر سلّم اهتمامات الحزب.. وبناء على هذه الاعتبارات بدا كلام السيّد حسن وكأنه يبعث بالرسائل المبطّنة الى الجانب الاسرائيلي.
هذا كله يدفعنا صوب الاستنتاج بأنّ التهديد قد لا يكون تهديداً “صادراً من حزب الله” ولو كانت مسيّراته واحدة من الرسائل، وإنما على الأرجح هو تهديد صادر بواسطة حزب الله ومصدره محور “روسيا – الصين وإيران” الذي تشكّل منذ مدة في مواجهة الغرب، وبدأ يظهر مع بداية الحرب الأوكرانية.
باختصار شديد… تبدو الحرب الروسية – الاوكرانية هي عامل الضغط الأول والأساس في عملية تسريع المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل… وأنا أعتقد جازماً – ان ما قيل عن تهديدات من حزب الله وأمينه العام السيّد حسن… ومن خلال مسيّراته وتصريحاته “الى ما بعد كاريش، بل الى ما بعد بعد كاريش” لم تكن سوى “بالونات اختبارية”، فالضغوط الأوروبية والأميركية هي المحرّك الفعّال في عملية قد تشهد توقيع اتفاقية بشأنها في الوقت القريب.
*المقالات والآراء التي تنشر تعبّر عن رأي كاتبها*