في الحادي والثلاثين من تشرين الأوّل (أكتوبر) المقبل تنتهي ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون، مختتمة ست سنوات تشوّه خلالها وجه لبنان وأصيب جسده النحيل بإرهاق مقلق للغاية.
لم تكن النتائج التي حصدتها “بلاد الأرز”، خلال هذا العهد مفاجئة، ولو أنّها أتت مؤلمة جدَّا، فالموافقة على انتخاب العماد ميشال عون، صاحب التاريخ الحافل بالحروب والمواجهات والعداوات والمغامرات والطموحات الجموح، كانت، في الواقع “مقامرة”، بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى، خصوصًا بعدما أصبح “حزب الله” هو ضامن ترشيحه “الإحتكاري”، بطريقة كبّدت البلاد أثمانًا باهظة لفراغ رئاسي دام أكثر من سنتين وخمسة أشهر، كان قد جرى التمهيد له باغتيالات نوعية استهدفت، قبيل انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، رمزين مهمّين وهما اللواء وسام الحسن والوزير السابق محمّد شطح اللذين طالما ضمنا، أمنيًا ودبلوماسيًا وسياسيًا ومعنويًا، صمود “تحالف 14 آذار” في مواجهة ضغوط الثنائي: “حزب الله”- “التيّار الوطني الحر”.
ولقد كان لهذين الإغتيالين، بدلالاتهما الأمنية والسياسية، كما أظهر حراك الكواليس في تلك المرحلة، التأثير الحاسم في إدخال تعديلات جوهريّة على طريقة تفكير قوى أساسية في تحالف 14 آذار، الأمر الذي قاد هذا التحالف، شيئًا فشيئًا إلى “صراع الفناء”، فأنتج الإستسلام لإيصال عون الى رئاسة الجمهورية، على قاعدة “دعونا نحاول”، متجاهلين القاعدة الملازمة” مين جرّب المجرّب كان عقله مخرب”.
في عهد الرئيس ميشال عون، سار لبنان، من دون أيّ تردّد، نحو جهنّم، مع انه كان ممكنًا، مع قليل من التعقّل والغيرية والانفتاح والإعتدال والتحسّس للصالح العام، تغيير المسار رأسًا على عقب، لكنّ قاعدة “من شبّ على شيء شاب عليه” أظهرت دقّتها، مرّة جديدة.
وفيما يفتح لبنان، في الأوّل من أيلول (سبتمبر) المقبل فصلًا رئاسيًا جديدًا، مع بدء المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس الرابع عشر للجمهورية اللبنانية، يبدو أنّ الجولة على معطيات وصول عون وظروفها ليست نقاشًا في ما كان قد حصل، بقدر ما هي إضاءة على ما يُمكن أن يحصل، لأنّه في لبنان تبقى مقولة “لا جديد تحت الشمس” صحيحة.
“الجيش هو الحل”
منذ وصوله الى قيادة الجيش اللبناني، جذب قصر بعبدا “سيّد اليرزة”. كان يرى نفسه قادرًا على صناعة المعجزات، لأنّه “ذكي، رؤيوي، وقوي”، في حين وجد في الرؤساء المتعاقبين “سطحية، ومحدودوية، وضعفًا”.
ولكنّ المعطيات الجيو سياسية التي كانت تتحكّم بالبلاد لم تكن لمصحلته، فأراد أن يدخل تعديلات على الأمور لمصلحته، فنظر الى أحوال البلاد الموزّعة على إمارات ميليشياوية، فوجد أنّ طريقه لا بد من أن يكون عبر إقناع العسكر والإقليم والمجتمع الدولي والرأي العام اللبناني بأنّ “العسكر هو الحل”، فكان الكتاب الذي وضعه العميد فؤاد عون ” ويبقى الجيش هو الحل”.
لم يكن هذا الكتاب عملًا فكريًا، بل كان خارطة طريق لنقل السلطة من رئيس الجمهورية، في حينه، أمين الجميل الى العماد ميشال عون.
وقد أقدم عون، من أجل تحقيق هذا الهدف، على كلّ ما يمكن أن يفعله، فرفع الى مستويات غير مسبوقة في لبنان، الشعارات السيادية والإصلاحية، في المسألة الرئاسية، الأمر الذي أعانه على الوقوف في وجه المرشّحين الذين اعتمدهم النظام السوري، فعطّل، بداية جلسة انتخاب الرئيس السابق سليمان فرنجية، قبل أن يتّفق وقائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع، بعد تلاقي مصالحهما، على التصدّي لمرشّح التسوية المحلية –الإقليمية-الدولية مخايل الضاهر، كما لفكرة تمديد ولاية الرئيس أمين الجميل.
كان العماد عون، في ظلّ استحالة وصوله بالإنتخاب، إلى رئاسة الجمهورية يتطلّع الى أن يحتلّ كرسي الرئاسة من موقع رئيس الحكومة الإنتقالية، على أن تكون، وفق ما ورد في كتاب” ويبقى الجيش هو الحل” حكومة رئاسية لا حكومة انتقالية كتلك التي خاض تجربتها قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب الذي أمّن، إنطلاقًا من التزامه بالدستور والمفاهيم الديموقراطية ومرجعية المؤسسات، بعد خمسة أيّام فقط من استقالة الرئيس بشارة الخوري، جلسة الإنتخاب التي انتهت الى ترئيس “فتى العروبة الأغرّ” كميل شمعون.
وحصل قائد الجيش على مبتغاه، عندما سلّم الرئيس أمين الجميل، قبيل مغادرته القصر الجمهوري، البلاد الى حكومة قوامها المجلس العسكري برئاسة عون.
وإذا كان هذا التعيين قد أرضى تطلّعات عون الذي ضغط، بكل الأدوات التي يملكها الجيش اللبناني من أجل الوصول إليها، إلّا أنّه أقحم البلاد في كارثة لم تتخلّص من تبعاتها وانعكاساتها وتداعياتها، بعد.
وكان لافتًا للإنتباه، أنّ كلّ من تعاون مع عون لإيصاله الى القصر الجمهوري، بكّر في دفع الثمن: جرى، بداية “نفي” الرئيس أمين الجميل من البلاد، بحجة عدم القدرة على المحافظة على أمنه الشخصي والعائلي، وتمّ الإنقضاض، لاحقًا على “القوات اللبنانية”، في ما سمّي بمعركة “مدرسة قمر” في تحويطة فرن الشّبّاك، إثر كمين قيل ان جعجع تعرّض له.
وبدا لكثيرين أن عون، بعدما ضمن الوصول الى القصر الجمهوري، يريد، في ظلّ الإنقسام الوطني الذي نشأ عن تسليمه رئاسة الحكومة، دفع الثمن “المفترض” لـ “الفريق الآخر” الذي كان يقوده النظام السوري، من أجل إبقائه فيه وإيصاله، في أقرب وقت ممكن، الى منصب رئيس الجمهورية.
لقد ظهر العماد ميشال عون، في ضوء هذه الخطوات التي أقدم عليها، أنّه لا يقبل بوجود شركاء له في الساحة التي يبسط سيطرته عليها، فهو، عندما يصل الى سلطة يُنظّف ساحته من كلّ منافس محتمل، ليتمكّن من إقامة علاقة “تبادل المصالح” مع الجهة المقابلة التي تملك وحدها أن تعطيه ما يحتاج إليه.
الدرس الذي أعطاه العماد ميشال عون في العام 1988، تجاهله، في العام 2016 كثيرون، بعضهم ممّن كانوا قد دفعوا ثمنه غاليًا.
وحده “حزب الله” كان قد حفظ هذا الدرس وحلّله و…أحسن استغلاله.
(يتبع)
فارس خشان