الهديل

المفتي دريان: فليبقَ الدستور واتّفاق الطائف لكي يبقى لبنان

افتتح مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان المؤتمر العلمي في أزهر البقاع بعنوان: “سماحة العلامة الشيخ خليل الميس أثره الفقهي والتربوي والاجتماعي”، في حضور النائب بلال الحشيمي ممثلا رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي والرئيس فؤاد السنيورة وممثلين عن المرجعيات الدينية ونواب وشخصيات.

وقال المفتي دريان: “يشعر المرء بينكم أنتم أهل الشيخ خليل ومجتمعه وأحبابه، بالأمن والأمان والإيمان. لقد صدمنا بالفعل، إنه رحمه الله رحمة واسعة، غادرنا إلى جوار ربه قبل عام. فبالأمس القريب، كان ملء السمع والبصر بلسانه وعمله، من أجل خير دينه وخير مجتمعه. إن فجيعتنا بالشيخ خليل الميس، لا تعود بالطبع إلى أنه أول من مات، فكلنا على الدرب. ولا لأن الرجال في البقاع قليل، فهم كثر بحمد الله، في هممهم العالية، ونهضتهم في الدين والدنيا. الفجيعة بالعلامة الشيخ، تأتي من مكان آخر. هو التكامل في شخصيته بين العلم والعمل، وهذا مثال نادر. إن ظاهرة التفاوت والتخالف بين العلم والعمل – والشكوى منها قديمة في كتب العلماء وأشهر من ذكرها أبو حامد الغزالي، في إحياء علوم الدين. وهكذا فإن الشيخ الميس، كان مثالا للعامل بعلمه. وعلم الشيخ خليل علمان: علم التخصص في الفقه وأصوله، والعلم الآخر هو فقه الرسالة التي حملها على عاتقه”.

أضاف: “إذا كان التخصص قد أوصله إلى الإفتاء والاجتهاد الفقهي، فعمل بعلمه لهذه الناحية، في خدمة الناس وخدمة طلابه الكثر وتعليمهم؛ فإن فقه الرسالة الدينية والأخلاقية، هو الذي ملك عليه فؤاده، وشغل ليله ونهاره، فأفنى فيه عمره، طامحا من طريق صناعة المؤسسات العلمية، ومنتديات الشورى، والعمل الخيري العام، أن يحدث نهضة غابت عنا في لبنان منذ مدة. نهضة الشيخ الجليل، هي نهضة ذات أربعة أركان: العلم الديني، وأخلاق القيم، وعمل الخير العام، والوطنية الرحبة التي تسع كل الناس”.

تابع: “ليس الشيخ الجليل أول بناة المؤسسات. لكن مؤسساته كانت ولا تزال منذورة للعلم والتنوير والخير العام، وهي أمور لا تكاد تجتمع في المؤسسات الأخرى ذات التاريخ العريق. كان كما أذكر، يكرر في وصف عمله وأسباب نجاحه العبارة: نحن على قلب رجل واحد بإذن الله وتوفيقه. وهو يقصد بذلك التوحد على العمل والهدف، في جهد الجماعة وجهادها. الرائد الإخلاص الذي يجلب الوحدة ويقتضيها، عندما تغيب المصالح الذاتية والأهواء”.

أضاف: “الإمام الغزالي قال في الإحياء: إن الذي لا يعمل بعلمه معرض للهلاك وفقد رحمة الله. لكنه أكد في الوقت نفسه أن عدم عمل فلان بعلمه، لا يعني أن ذلك العلم خطأ، وإنما هو الضعف الذي يصيب الإرادة، فلا تتوافر النية للسير قدما فيما بدأ الإنسان فيه. وما قصده الإمام الغزالي، أن الخطأ ليس هو الذي يصرف عن عمل الخير؛ فالإرادة والمتابعة قائمة على النية التي يوفرها الإخلاص، أو لنقل الإيمان بالفكرة. وقد كان إيمان الشيخ الجليل بما يقوم به من أعمال، منقطع النظير. ما كان عليه عمل الشيخ الجليل، أن العلم الديني لدي اتسع من خلال الرسالة، ليصبح خيرا عاما. والفقيه الكبير، ما عاد ظاهرة كبيرة في مجتمعنا. إنما لدى الشيخ خليل ، يتم الاقتران دائما وهو بعد العلم والعمل، بين العلم والخير العام. يتسع مجال العلم ورسالته، ليصبح خيرا لكل الناس. أستاذنا المشترك، أو أستاذ جيلنا نحن والشيخ خليل في هذا المجال، هو المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد، الذي بادر إلى تطوير المؤسسات الدينية القائمة، وأنشأ مؤسسات جديدة، وتقدم إلى مجتمعنا الإسلامي واللبناني، باعتباره صاحب التزام لا توقفه حتى الحرب الأهلية”.

وقال: “كان الشيخ حسن خالد يعرفنا عن كثب ونحن قلة. ولم يختر للشيخ خليل القضاء، بل اختار له إدارة أزهر لبنان منذ سبعينيات القرن الماضي. وفي إدارة الشيخ تعلمنا جميعا . وكان دأبه الاستشهاد بقوله تعالى: “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون”. كان الشيخ يستشهد بمفردات الراغب الأصفهاني، ليصل إلى أن المعروف هو معنى من معاني الخير. لكن ما كان يلفت انتباهه، مسألة الفلاح في نهاية الآية: “وأولئك هم المفلحون”. فالفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، يحصل بالربط بين الخير والمعروف، وهما المهمتان اللتان ينذر المرء نفسه لهما فيتحقق الفلاح. إنما هناك العنصر الرئيس، الذي بدأ به القرآن في مخاطبته لنا؛ فقد قال: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير﴾. وللأمة في كتب الوجوه والنظائر عشرة معان؛ منها العصبة والجماعة الصغيرة، وأحيانا الرجل الواحد، كما في الآية الكريمة عن إبراهيم عليه السلام: “إن إبراهيم كان أمة”. لمن وبمن أنشأ الشيخ الجليل هذه المؤسسات وقادها؟ بهذه النخبة الطليعية، أو بهذه الأمة التي اكتشفها واختارها ووجهها في سبل الرشاد، رجا الشيخ أن يكون قد خطط لمستقبل المشروع الكبير، الذي حسبما قلنا، يتوسع من العمل العلمي والدعوي والتدريس، إلى المعروف والخير العام”.

أضاف: “نحن اليوم في هذه الدار الزاهرة، دار الأزهر للعلم وعمل الخير والمعروف. ولأنها كذلك في الخطة والرسالة، فهي دار وطنية، تتقصد الخير الوطني، والاستقامة الوطنية. وقد كانت البيئة التي أعاد الشيخ الجليل إنتاجها شديدة الانفتاح، كما هو شأن من يصنع المعروف. لكن ذلك لا يعني أنه ما كانت للشيخ خليل مواقف مبدئية وسياسية ووطنية. وقد كان يعتقد أنه بذلك يحمي عمله العلمي والخيري، ويظل أمينا لبيئة مجتمعه، مثل أمانته للدعوة والرسالة. نحن في أزمة وطنية كبرى وطاحنة، تهدد أسس الكيان، وتحطم مؤسساته الدستورية وغير الدستورية. في أزمتنا الأولى التي بلغت ذروتها في الاجتياح الصهيوني، كان هناك اهتمام عربي ودولي بلبنان، أوصل للاجتماع بالطائف، وتعديل الدستور، والبدء بمسار سلمي صنع أكثر حلقاته الرئيس الشهيد رفيق الحريري رحمه الله. أما اليوم، فإن هذا الانهيار يحصل، ولا اهتمام من قريب أو صديق. وقد عاد حديث الأقلية والأكثرية، والسلاح والطائفة المميزة”.

وتابع: “نحن، وعلى خطى كل كبرائنا وشهدائنا، من رياض الصلح، إلى رشيد كرامي، إلى حسن خالد، إلى رفيق الحريري، وإلى شهداء الاستقلال الثاني، وإلى الشيخ خليل الميس؛ نظل مصرين بل مجمعين على ثوابت العيش المشترك، والدستور واتفاق الطائف، والشرعية العربية والشرعية الدولية. كان الشيخ خليل يقول: لا يزحزحنا عن تصميمنا حدث مهما تعاظم، في الإصرار على العيش المشترك، والاستقلال والحرية، وصنع المستقبل الآخر لأولادنا، واستعادة أخوتنا العربية وصداقاتنا. كنا حريصين على عدم الإزعاج والقطيعة، لكننا اليوم لن نتردد في إدانة الجناة على الوطن وعلى المواطنين. فليبق الدستور واتفاق الطائف لكي يبقى لبنان”.

وختم: “ميراث كبير ذلك الذي تركه الشيخ خليل في سيرته وأخلاقه، وفي أعماله المؤسساتية والخيرية. ونحن مؤتمنون على متابعة النهضة التي بدأها، مهما كلف الأمر. فرحم الله المفتي الشيخ خليل الميس، وأقدرنا على صون تراثه وتطويره وتجديده. شكرا لكم على المؤتمر الذي أقمتموه في ذكراه، لكي نتذكر، ولكي نحفظ الجميل، ولكي نسير على طرق البناء والعمران في النفوس الزكية، وفي الهمم العليا، وفي صنع المستقبلات البديلة، كما كان المفتي الميس يفكر ويفعل”.

Exit mobile version