ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده، قداسا إلهيا في كاتدرائية مار جاورجيوس في بيروت بحضور حشد من المؤمنين.
بعد الإنجيل، ألقى عوده عظة قال فيها: “تعيش كنيستنا المقدسة تزاوجا في المفاهيم لا يفهمه الذين يجهلون حياتها. فنحن لا نجد تضاربا بين الرحمة والعدل، وبين الخوف والمحبة، وبين الناموس والنعمة. كلها تعاش كمراحل لمسيرة الإنسان الروحية الواحدة من جحيم الشر إلى فردوس النعمة، ومن العبودية إلى الحرية. يقول النبي داود: “من أجل رحمتك وعدالتك أسبحك يا رب” (مز 100: 1). إذا، الرحمة تسبق والحكم يتبعها. يعطي الله أولا نعمته، ثم يأتي كديان عادل ليجازي “كل واحد حسب أعماله”. لا يحاسب على الأعمال التي تفوق طاقتنا، بل يمنحنا نعمته، ثم يديننا على مقدار الثمار التي أنتجناها من عطيته. خوف الدينونة يوقظ فينا الوعي إلى تفعيل النعمة، فنحاول العيش بحسب أوامرها. هكذا، نعبر من الخوف الذي “له عذاب” (1يو 4: 18)، إلى المحبة التي “تطرح إلى الخارج” الخوف المعذب. كذلك، تكشف المحبة التي هي ملء الناموس، العبور من حرفية الوصايا الإلهية إلى روحيتها، أي من الطاعة الخارجية لمشيئة الله، إلى ضبط حركات النفس كلها وفقا لوصاياه”.
أضاف: “في قراءة إنجيل اليوم، يرتسم بجلاء ترتيب مسيرة الإنسان الروحية، وفي الوقت نفسه يتم وصف العواقب الفظيعة التي وصل إليها الرجل الذي لم يرد أن يماثل رحمة الله في تصرفه. لقد نجح المدين بعشرة آلاف وزنة في طلب ترك ديونه بقوله لسيده: “تمهل علي فأوفيك كل ما لك”، وقد سيطر عليه خوف الملك، إلا أنه لم يتقدم في المحبة، لم يكمل مسيرة انعتاقه، ولم يتحنن على رفيقه الذي طلب منه أن يمهله، فخسر كل شيء. إن الملك في إنجيل اليوم هو الآب السماوي الذي يحاسب عبيده المؤمنين دائما. كل اجتماع للمؤمنين، لا سيما في القداس الإلهي، هو اتصال بالله الآب، الذي يركز أولا على العفو عن ديون الناس الروحية. الكنيسة هي خيمة اجتماع الله مع الناس، ندخل إليها كمدينين بعشرة آلاف وزنة لنطلب الانعتاق من ديوننا. عندما ندخل الكنيسة بفكر آخر طالبين أمورا أخرى، هذا يعني أننا نجهل رسالتها وأنفسنا أيضا. الإحساس بديننا هو نتيجة الإيمان الحي بأن الله حاضر في كل زوايا حياتنا. لقد حضر المدين بعشرة آلاف وزنة قدام الملك، وكلمه وجها لوجه، وهذا نفسه يحصل معنا عن طريق الصلاة الصادقة، التي هي خروج من الكلام على طلباتنا الشخصية، وانفتاح على الحوار مع الله الحي. يكشف لنا هذا الحوار شخصيتنا الحقيقية، ويبين لنا ثروتنا المسلوبة، المختلسة من مال غريب. هكذا نكتشف قدام الله لجة شرورنا”.
وتابع: “يقول لنا الإنجيلي إن الدين كان قرضا، فتحنن سيد العبد المدين وترك له ديونه. لكن ما هو القرض الذي نأخذه من الله ونحن مديونون بإرجاعه؟ قرض الله هو كل كلمة إلهية نسمعها في الكنيسة، إنه أقوال الله التي ندان عليها كمدينين بسماع آلاف الأقوال من الله كدين المديون بالوزنات، على حسب توصيف القديس غريغوريوس بالاماس. يمنحنا الله نعمته دائما، بطرائق كثيرة، ونحن ندين له باستثمارها، منمين بذار الفضائل في داخلنا. إيفاء الدين هو إعادة كل وجودنا إلى الله، وإحياء صورة الله فينا. عندما تبقى القراءات والتراتيل التي نسمعها في الكنيسة، والتي تملأ قلوبنا بالنعمة، غير فاعلة، نحن ندين لله بعطاياه، كما لو بعشرة آلاف وزنة. لكن، عندما نشعر بديننا وعدم قدرتنا على العيش وفقا لروح الكلمة، عندئذ نمتلك القوة لإيفائه بالصلاة المتواضعة، بطلبنا أن يتمهل الله علينا”.
وقال: “مسيرة المدين بعشرة آلاف وزنة تبين لنا المراحل التالية: أولا، الإحساس بالدين، المرتبط بخوف الملك. ثانيا، طلب الرحمة، بتواضع. ثالثا، الحصول على الغفران. رابعا، إنعدام الشفقة تجاه رفيقه، وما ينتج عنه من نكران لرحمة السيد، وبسببه عاد العبد إلى وضعه كمدين. ضمن هذه المسيرة، يرتسم لنا سر مغفرة الخطايا، الذي لا يتوقف عند ممارسة سر الاعتراف الشكلي. يمنح الله مغفرة الخطايا ضمن شروط ليست مجرد إجراءات شكلية يتم فيها انتقال النعمة الإلهية آليا. كذلك، الإعتراف بالخطايا ليس دائما برهانا للتوبة، لأن كثيرين يعترفون بخطاياهم بافتخار. الإعتراف هو عمل بطولي وخلاصي، عندما يرتبط بمعرفة الذات وإدانتها، وبالرغبة في تغيير طريقة الحياة، وفي إتمام مشيئة الله في حياتنا الشخصية. من يتوب حقا لا يدين الآخرين كما فعل العبد الشرير، ولا يفكر في عدم مسامحة رفاقه العبيد، لأنه يشعر بأن حياته كلها تعتمد على مغفرة زلاته الخاصة، لذلك لا وقت لديه للنظر إلى هفوات الآخرين، لأنه منشغل في خلاص نفسه من خطاياها. الله يترك لنا ديوننا ويطلب منا الرحمة والشفقة والمحبة نحو إخوتنا البشر، وإلا بقي ديننا غير مسدد، لذلك علمنا في الصلاة الربانية أن نقول: “واترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمن لنا عليه”. مغفرة خطايانا مرتبطة بغفراننا لخطايا المسيئين إلينا، وإلا نقع في دائرة مغلقة من الدينونة وعدم المغفرة، لأن علاقتنا بالله تنتظم بحسب مواقفنا من الناس”.
أضاف: “ما أكثر العبيد الأشرار في بلدنا، يحصلون حقوقهم بواسطة المناصب والكراسي التي يشغلونها، ثم ينكلون بإخوتهم البشر الذين لا يستطيعون إلى حقوقهم سبيلا. فلو كانت لدينا محاسبة عادلة، كمحاسبة الملك للعبد الشرير، لما كان تجرأ أحد على كسب غير مشروع، أو احتكر وجع الشعب وأذله، وتركه دون دواء بين حي وميت. المحاسبة العادلة والتوبة الصادقة تنقذ البلد مما أدخل فيه، لأنها توقظ كل مواطن ومسؤول وزعيم فيتبين ما سولت له نفسه فعله بإخوته ومواطنيه. عندما يصل المرء إلى معرفة الذات، والدينونة الشخصية عوض تعيير الآخرين وإدانتهم، تستقيم الأمور ويعم السلام بين الناس. اللبنانيون يحنون بأسف ومرارة إلى القرون الماضية التي شهدت رجالات كبار وإنجازات عظيمة، ويتألمون من الحاضر بسبب بشاعته وسواده، ويخشون المستقبل لأن لا ضياء في الأفق. المواطن سئم السجالات والتوترات والتصعيد الدائم، سئم الوعود العرقوبية، سئم عدم الاستقرار والهزات السياسية والاقتصادية والقضائية، وهو يتوق إلى حياة هانئة في ظل دولة مستقرة، ونظام ثابت، وحكام يعملون من أجل المصلحة العامة والخير العام، بنزاهة وإخلاص.
وعوض ذم نظامنا وقوانيننا فلنطبق أولا القوانين قبل العمل على سن غيرها، ولنحترم القضاء ونبتعد عن التدخل في أحكامه، ولنحترم المهل والإستحقاقات الدستورية، وليلتزم كل حده ويعمل واجبه. باختصار، لنطبق نظامنا الديمقراطي وأحكامه دون مواربة أو انتقائية، وبعدها تدرس الشوائب وتعالج”.
وختم: “منح الرب الإله كلا منا وزنات بحسب قدرته وطاقاته، “أعطى البعض أن يكونوا رسلا، والبعض أنبياء والبعض مبشرين والبعض رعاة ومعلمين” (أف 4: 11)، وعلى كل واحد أن يثمر وزناته ويترك الآخرين يعملون بحسب ما أعطوا، عوض مراقبتهم وإدانتهم لأن الدينونة لله وحده، أما الإنسان فللعمل والبنيان. في الأخير، دعوتنا اليوم هي إلى محبة الآخر ومسامحته، كما يسامحنا الله إن تبنا حقا. بارككم الرب وزرع في قلوبكم الرحمة والمحبة والعدل