كتب يوسف دياب في “الشرق الأوسط”:
«نحن أموات لكننا نتحرّك بين جدران أربعة»… بهذه العبارة لخّص أحد السجناء حالته مع آلافٍ من زملائه الموزّعين على السجون اللبنانية، حيث لا قيمة للإنسان بداخلها، تماماً كما هو حال المواطن خارجها؛ كونه يعيش في وطنٍ بات أشبه بالسجن الكبير.
لم يعد همّ نزلاء السجون العودة إلى الحريّة، ولا العيش مع أبنائهم وعائلاتهم تحت سقف واحد، لقد أصبحوا في صراع البقاء على قيد الحياة، وتجنّب الموت في الزنازين نتيجة الأوبئة والأمراض وحتى بالجوع، كما يروي السجين يوسف عبد الكريم لـ«الشرق الأوسط» معاناته مع كثيرين مثله من نزلاء السجون اللبنانية. يسأل عبد الكريم «هل يعقل أن يقبع 18 سجيناً في غرفة واحدة (زنزانة) لا تتسع لأكثر من خمسة أشخاص نتقاسم فيها ساعات النوم رأساً على عقب؟». ويضيف «المشكلة ليست بضيق الغرفة وعدم القدرة على النوم فقط، بل بـ(القرف) المجبرين على تقبّله والتأقلم معه، من غياب النظافة، وانبعاث الروائح الكريهة من الحمامات (دورات المياه) المفتوحة على الزنزانات، وحرماننا من الاستحمام لفقدان المياه لأوقات طويلة، والتقنين في وجبات الطعام وغيرها من المشاكل».
ويقول يوسف عبد الكريم، وهو اسم مستعار لأحد السجناء ألقابعين في سجن طرابلس، ويحاكم بمحاولة قتل، إن «ما يزيد الطين بلّة هو تراجع زيارات الأهل لأبنائهم، بسبب إضراب القضاة وامتناع النيابات العامة عن إعطاء التصاريح لهذه الزيارات، عدا عن تكاليف انتقال أهلنا من مكان إقامتهم إلى السجن… ولا أحد يُظهر أي رحمة». واعتبر أن ذلك «حرمنا من الطعام المنزلي الذي اعتدنا عليه وكذلك من الأدوية التي تصلنا دورياً». ويخلص إلى القول «أغلب السجناء، ما عدا (المدعومين)، بات محكوماً عليهم بالإعدام ليس نتيجة أحكام قضائية، بل بسبب الأوبئة وفقدان الأدوية والطعام»، مشيراً في المقابل إلى أن «هناك موقوفين أو محكومين ينزلون في سجون 5 نجوم لأنهم محسوبون على أحزاب وسياسيين».
شهادة هذا الشخص، تمثّل عيّنة صغيرة عن أزمة السجون التي عادت لتتصدّر الأزمات التي يغرق فيها البلد، خصوصاً مع ازدياد عدد الوفيات بداخلها نتيجة تفشّي الأوبئة والفيروسات، وتراجع الخدمات الطبية إلى الحدود الدنيا، ولامبالاة المنظمات الدولية وهيئات المجتمع المدني. ويُنذر هذا الوضع بحصول تحرّك داخل السجون، وربما خارجها، بما يجعلها «قنابل موقوتة جاهزة للانفجار»، على حدّ تعبير رئيس لجنة حقوق الإنسان النائب ميشال موسى. وتمثّلت الإشارة الأبرز إلى هذا الخطر باعتداء عدد من السجناء على عناصر قوى الأمن في سجن رومية؛ ما أدى إلى إصابة عنصرين.
ورغم استشعار الدولة بصعوبة الوضع، فهي تظهر عجزها عن إيجاد الحلول حتى الموقتة. وأكد عضو لجنة الإدارة والعدل النيابية النائب عماد الحوت، أن ملفّ السجون «شائك ومعقّد ويتطلّب تحرّكاً عاجلاً للحدّ من خطورته وتداعياته». وأكد لـ«الشرق الأوسط»، أن البرلمان «يدرس اقتراح قانون يلحظ تخفيض السنة السجنيّة لمرّة واحدة، ما يتيح إطلاق عدد كبير من السجناء، في ظلّ الشلل الذي يضرب عمل القضاء وغياب الرعاية الصحية». وتحدث الحوت عن اقتراح قانون جديد للعفو العام «ينصف من يجب إنصافه». وقال «بدأنا عملاً جدياً لتسريع وتيرة قانون العفو يختصر الطريق لإقراره، لا أن يغرق في اللجان النيابية مرّة جديدة».
ويقرّ المهتمون بملّف السجون بأن «مطالب السجون باتت أكبر من القدرة على تحقيقها، وتكاد الأمور تخرج عن السيطرة». ورأى مصدر أمني بارز، أن «معضلة السجون قديمة، لكنّ مع تفاقهما أضحت أشبه بالمأساة نتيجة الانهيار الكبير الذي يعانيه البلد». وأكد المصدر الأمني لـ«الشرق الأوسط»، أن «اختناق السجون بآلاف المحكومين والموقوفين يزيد من الأعباء وهذا الاختناق يترافق مع غياب الصيانة للمباني السجون والزنازين، واهتراء مجاري الصرف الصحي ودورات المياه وغياب التهوئة والتكييف نتيجة انقطاع التيار الكهربائي».
وفي حين تتوزّع السجون الرسمية على مختلف الأراضي اللبنانية، يجمعها همّ واحد يتمثّل بالاكتظاظ الذي يفوق قدرتها على الاستيعاب، وتعذّر إجراء المحاكمات في مواعيدها. وكشف المصدر الأمني، عن أن «سجون لبنان الرسمية يبلغ عددها 25 سجناً تضمّ نحو 8000 نزيل، وأكبرها سجن روميه المركزي الذي يضمّ 3700 محكوم وموقوف، في حين أن قدرته الاستيعابية لا تتعدى الـ1500 سجين». وأشار إلى أن «عدد المحكوم عليهم الذين يقضون عقوباتهم في كلّ السجون يتراوح بين 13 و15 في المائة، والنسبة المتبقية (نحو 85 في المائة) هي لموقوفين لم تستكمل محاكمتهم». وقال «المؤسف أن تراكم الأزمات ناتج من أمور عدّة، أهمها توقّف المحاكمات والتحقيقات التي بدأت مع انتشار وباء كورونا، واستكملت بإضراب القضاة المفتوح، وتأجيل المحاكمات لأوقات طويلة لعدم توفّر آليات لقوى الأمن الداخلي لنقل الموقوفين من السجون إلى المحاكم ودوائر التحقيق».
وتحدّث عن معضلة أخرى «تتمثّل بتوقّف عمل (لجنة تخفيض العقوبات) منذ أكثر من ثمانية أشهر، وهذه اللجنة يرأسها قاضٍ وتضمّ ضابطاً في الأمن الداخلي وطبيباً نفسياً ومعالجاً اجتماعياً، وهي تخفّض عقوبات من أمضى أكثر من نصف العقوبة المحكوم بها إذا كان السجين صاحب سلوك حسن». وعزا السبب إلى أن «وزارة العدل لم تعيّن طبيباً نفسياً ولا معالجاً اجتماعياً، وتبيّن أن الأطباء والمعالجين الاجتماعيين يرفضون تعيينهم في مثل هذه اللجنة لتدنّي بدلهم المادي نتيجة انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية». وعبّر المصدر الأمني عن أسفه «لغياب التقديمات التي كانت تؤمّنها بعض المنظمات الدولية؛ لأن مساعداتها تحوّلت إلى أوكرانيا غداة اندلاع الحرب الروسية على هذا البلد».
وزارات تتنازع الصلاحية على سجون «مهترئة»
وُضعت كلّ الدراسات التي أعدتها الدولة اللبنانية لتطوير السجون في أدراج النسيان، وحتى الاعتمادات التي رصدتها منظمات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي لإنشاء ثلاثة سجون جديدة وحديثة لم تأخذ طريقها للتنفيذ بسبب البيروقراطية المعتمدة في لبنان، والخلافات المزمنة والمستحكمة على إدارة السجون «المهترئة» بين وزارتَي الداخلية والعدل، والتي يدفع ثمنها السجناء وذووهم.
وأشار الباحث في «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين إلى أن السجون الرسمية «تنتشر في كلّ المحافظات ومراكز الأقضية، ويبلغ عددها 25 سجناً، ما عدا النظارات ومراكز التوقيف المؤقت». وأوضح لـ«الشرق الأوسط»، أن «أحدث السجون هو سجن روميه، الذي أنشئ قبل ما يقارب ستين عاماً، وبني على أساس قدرة استيعابية لا تتعدّى الـ1500 سجين في حين يحوي الآن على أكثر من 3500».
وأفاد شمس الدين، بأن «أبرز السجون وأكبرها تسلسلاً: سجون روميه المركزي، بعبدا، الريحانية، جبيل وبيت الدين، طرابلس، حلبا، البترون وأميون، صيدا، جزّين، مرجعيون، بنت جبيل والنبطية، زحلة، بعلبك وراشيا». وهناك سجن للنساء في ثكنة بربر الخازن في بيروت وسجن بعبد للنساء في جبل لبنان. وتحدث المصدر الأمني عن استحداث سجن جديد في منطقة ضهر الباشق القريبة من رومية، مخصص للفتيات القاصرات.
وفي الواقع، لا يتوقّف رقم السجناء والموقوفين عند حدود الـ8000 سجين الذين تحدث عنهم المصدر الأمني، بل يبدو أن الرقم أعلى من ذلك بكثير؛ إذ قال الباحث محمد شمس الدين؛ إن «نظارات قصور العدل، والنظارات التابعة لمخافر وفصائل قوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والشرطة العسكرية، تحوي مئات الموقوفين احتياطياً بقرارات تتخذها النيابات العامة بانتظار استكمال التحقيقات الأولية». ولفت إلى أن «التوقيفات في النظارات والمخافر مؤقتة، وهي خاضعة للزيادة والانخفاض بين يوم وآخر».