الهديل

بين توحيد سعر الصرف وتحريره… أيّهما أجدى على الاقتصاد والمصارف؟

فيما تعاني مكوّنات الوطن الاقتصادية الكثير من النكبات والانتكاسات منذ اندلاع أول شرارة للأزمة في تشرين 2019، لجأت السلطة الى صندوق النقد لمساعدتها في انتشال البلاد من المأزق. هذه السلطة لن تجد مفراً من الإصلاحات التي اشترطها لوضع لبنان على السكة الصحيحة واستعادة الثقة بقطاعاته وخصوصاً القطاع المصرفي، الذي ينتظر إعادة هيكلته من ضمن الخطة التي وضعتها الحكومة زالتي تتضمّن أيضاً توحيد سعر صرف الليرة التي فقدت أكثر من 90% من قيمتها أمام الدولار.

وليس خافياً أن أهم ما يؤرّق اللبنانيين هو ارتفاع سعر صرف الدولار الذي يبدو وفق التوقعات أن سعره سيكون موجعاً في المدى القريب، وتالياً يجمع الخبراء على أن من الخطأ الاستمرار في هذا الكم من أسعار الصرف داخل الاقتصاد اللبناني “المنكوب”، وتالياً على الدولة الاستغناء أو التخلي عن هذه الأسعار كخطوة أساسية في سياق إقرار وتنفيذ خطة التعافي الاقتصادي. وهذه الخطوة، إن أقرّت ونُفذت، توصلنا إلى سعر صرف واحد. وهذا هو أحد الشروط المسبقة لصندوق النقد الدولي.

وفيما يتخوّف البعض من أن يؤدّي توحيد سعر الصرف إلى ضرر كبير على المصارف وتالياً إفلاسها، تنصح مصادر اقتصادية بتحرير سعر الصرف الرسمي بما سيسهم باستعادة ثقة المودع بأداء المصارف اللبنانية وبتأمين السيولة اللازمة، إضافة الى تحسين الدورة الاقتصادية واستعادة الثقة بالاقتصاد اللبناني مع تأمين المنافسة المشروعة، وتدفق الأموال من الخارج بعد طمأنة أصحاب الودائع بشأن سهولة سحبها من المصارف.

بيد أن مصادر مصرفية تتخوّف من أن يؤدّي توحيد سعر الصرف تدريجاً الى استغلال البعض الفروقات في أسعار الصرف، من خلال ادّخار العملات الأجنبية وتخزينها. فإن كان السعر الموحّد المعلن أقلّ من سعر السوق، فسيلجأ هؤلاء الى شراء العملة المحلية بغية استغلال الفرق في السعر لتحقيق الأرباح أو للحفاظ على قيمة الأصول التي بحوزتهم. أمّا إن كان السعر الموحّد المعلن أعلى من السعر الموجود في السوق، فسيتجهون إلى شراء العملة الأجنبية أو الأصول المقوّمة بها بغية تحقيق الأرباح أو حفظ القيمة.

أمّا إن كان المصرف المركزي قادراً على التلاعب بأسعار الفائدة بحيث تكون فيه نسبة الانخفاض في سعر العملة الوطنية، لا تضاهي الفائدة على الودائع المقوّمة بالعملة المحلية، تصبح مصلحة الأفراد والشركات الإيداع في المصارف بدلاً من شراء العملات الأجنبية من السوق. ولكن في المقابل تشير المصادر الى أن رفع أسعار الفائدة في لبنان لم يعد متاحاً، خصوصاً أن تعدّد أسعار الصرف يتزامن مع قدرة بعض المصارف على دفع فوائد مرتفعة توازياً مع فقدان ثقة العملاء بالمصارف وعدم قدرتها حتى على جذب أموالهم بالعملة المحلية.

إذن “سعر صرف موحّد” هو أحد الشروط المسبقة لصندوق النقد الدولي، وإن كان التفسير المعلن لهذا الشرط هو “توحيد” سعر الصرف، فإن الخبير في المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد محمد فحيلي يفسّره بـ”تحرير” سعر الصرف من الأسعار المصطنعة وترك تحديد سعر الصرف للسوق والعرض والطلب.

فسعر الصرف الرسمي (1507 ليرات للدولار الواحد) وهو سعر كلّف خزينة الدولة والاقتصاد اللبناني أكلافاً باهظة للمحافظة عليه ولا يعكس أبداً العرض والطلب لأنه فعلياً لا يوجد تداول على هذا السعر، وهناك سعر الصرف الذي حدّده التعميم الأساسي رقم 151 (8000 ليرة للدولار الواحد)، وآخر حدّد بموجب أحكام التعميم الأساسي رقم 158 (12000 ليرة للدولار الواحد). الاثنان ليسا من أسعار السوق لأنه لا يوجد تداول و/أو عرض وطلب على هذه الأسعار.

يبقى سعر منصّة صيرفة التي أنشئت بموجب أحكام تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 157 وتم تفعيل نشاطها بموجب التعميم 161 في كانون أول من سنة 2021. يحدّد السعر مصرف لبنان والهدف الحقيقي من وراء تأسسيها هو استقطاب ما تيسّر من طالبي الدولار من السوق السوداء لضبط الفلتان في هذه السوق. هو أيضاً سعر مصطنع بسبب الضوابط العديدة المفروضة على التداول ومحدودية التداول، وكثافة الطلب على الدولار مقابل العرض.
لهذا فإن المطلوب وفق فحيلي هو “رفع يد السلطة النقدية عن سوق الصرف نهائياً (تدريجاً أو بضربة واحدة) وترك السوق ليحدّد سعر الصرف، وبهذا يكون المطلوب “تحرير” سعر الصرف لا “توحيده” وذلك لأن التوحيد يتطلّب موارد قد يكون من الصعب توفّرها لدى السلطة النقدية”.

الكلام عن توحيد سعر الصرف برأي فحيلي كافٍ للدلالة على فشل هذه الخطوة بإحداث أيّ تغيير إيجابي على صعيد الاقتصاد عموماً أو على صعيد سلامة النقد اللبناني والتحديات ستكون عدّة، بدءاً من تحديد هذا السعر، إذ من هي السلطة صاحبة الاختصاص المؤهّلة لتحديد هذا السعر؟ وما المعطيات الاقتصادية التي ستستند إليها ًعلما بأن من البديهي أن أي سعر غير سعر السوق الموازية سيتطلب موارد للوصول إليه والمحافظة عليه.

وهذه سوف تلغي حكماً الحاجة إلى الأسعار التي حدّدتها التعاميم 151 و157 و158 و161، واعتماد السعر الجديد (الذي سيكون حكماً سعراً مصطنعاً) قد يُترجم بارتفاع بحجم الكتلة النقدية وضغوطٍ تضخمية إضافية”.

ويؤكد فحيلي أنه “سوف تكون هناك كلفة إضافية، وسوف تكون باهظة، على جميع العمليات التي تجري على سعر الصرف الرسمي وسوف تطال كل المواطنين وقد تنعكس ارتفاعاً بالمصاريف التشغيلية للمؤسسات. ومن الخطأ جداً النظر فقط إلى تداعيات “توحيد” سعر الصرف على المصارف من دون غيرها من مكوّنات القطاع الخاص. فاليوم، المطلوب هو حماية القطاع المصرفي وتمكينه من الاستمرار في خدمة الاقتصاد اللبناني. ولكن هذا “لا يعني بالضرورة حماية المصرفيين وإبراء ذمّتهم من الارتكابات غير القانونية وغيرها من الأخطاء، أو/و حماية كل مصرف من المصارف الـ58 التجارية العاملة اليوم على الأراضي اللبنانية. فالسلطة صاحبة الاختصاص القادرة على فرز المصارف بين من هو قادر على الاستمرار من غيره، هي لجنة الرقابة على المصارف. وما تحتاج إليه المصارف اليوم هو إعادة الهيكلة، ويمكّنها من الصمود والاستمرار هو الملاءة وكفاية رأس المال وتوفر السيولة بعد الأخذ في الاعتبار المخاطر التي يواجهها المصرف من توظيفاته وغيرها، وهذا الواقع يختلف بين مصرف وآخر”. ويقول إن “ما تحتاج إليه المصارف هو إعادة جدولة وهيكلة الدين السيادي باستحقاقات تصل إلى سنة 2037، ولكن بسبب “التعثر غير المنظم” من السلطة السياسية في آذار من سنة 2020 أصبح كله مستحقاً وتحوّل رصيد هذه التوظيفات في الدين السيادي إلى خسارة تُحتسب فوراً على المصرف”.

ويختم فحيلي بتأكيده أن صندوق النقد يتجه نحو تحرير سعر الصرف لا توحيد الصرف، ومع وجود الملاءة الكافية وكفاية رأس المال والسيولة، فإن سعر الصرف يصبح أمراً ثانوياً بالنسبة للمصارف التي تتطلع الى إعادة هيكلة وإعادة جدولة الدين العام لكي تخفف من الأعباء عليها وخصوصاً حيال امتصاص الخسارة التي نتجت عن التعثر غير المنظم في آذار 2020. فتوحيد سعر الصرف ليس الهدف، بل تحريره هو الأجدى. أما تداعيات التوحيد فستكون كارثية أكثر على الاقتصاد أكثر منها على المصارف”.

 

المصدر:النهار

Exit mobile version