كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
مع السيناريو الجديد الذي أوحى بعودة الوسيط الاميركي في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية عاموس هوكشتاين إلى لبنان والمنطقة نهاية الأسبوع الجاري، برزت معالم ستاتيكو جديد، قد تسمح بالتوصل إلى الاعلان عن خطوة متقدّمة نحو ما انتهت اليه مهمّته. ومردّ ذلك بات رهنًا بقدرة الحكومة الاسرائيلية على حسم موقفها من الطرح اللبناني الثابت ومستلزماته، كما بالنسبة إلى توفير واشنطن للضمانات التي طلبها لبنان. وعليه، ما الذي يتميّز به المشهد الجديد؟
حتى الساعات الاخيرة التي سبقت صدور البيان الأخير أمس الاول الأحد عن القصر الجمهوري، والذي كشف مضمون الاتصال الهاتفي الذي أجراه نائب رئيس مجلس النواب الياس بوصعب، بصفته مكلفًا رئاسيًا بمتابعة المفاوضات في شأن ترسيم الحدود البحرية مع هوكشتاين، كانت الشكوى اللبنانية قد بلغت الذروة من التأخير الحاصل في نقل الجواب الاسرائيلي الذي تعهّد به الوسيط الاميركي أمام المسؤولين اللبنانيين، في اللقاء الموسّع معهم في الأول من آب الماضي في قصر بعبدا، وانتهى إلى خريطة طريق اعتُبرت انّها ما قبل الأخيرة التي تكرّس التفاهم النهائي على العملية كاملة.
وعلى وقع سلسلة السيناريوهات المنطقية وغير المنطقية التي تسرّبت من مصادر عدة، والتي لا تحظى بأي مباركة رسمية بعد ان غزت بعضها الشكوك من مختلف الأطراف المنخرطين في مفاوضات الناقورة، كانت العيون شاخصة إلى الجهود التي يبذلها الموفد الاميركي بحثًا عن الضمانات التي طالب بها الجانبان اللبناني والاسرائيلي، والتي لا بدّ منها لتكوين الاتفاق النهائي بما يحتوي عليه من قضايا فنية وتقنية واقتصادية ومالية وأمنية. وما يفيض منها يمكن الإشارة اليه بالحديث عن المعطيات التي تؤمّن التوازن المطلوب في الاتفاق المنشود، بما يضمن الحدّ الاقصى الذي يرضي الجانب اللبناني ويستجيب لما جاء في طرحه الأخير الذي كرّسه الإجماع الرسمي في لقاء بعبدا من جهة. كما بالنسبة إلى موقف الحكومة الاسرائيلية التي تخوض المفاوضات مع لبنان في ظلّ المواجهة القاسية التي تخوضها مع المعارضة عشية انتخابات الكنيست المقرّرة في الاول من تشرين الثاني المقبل من جهة أخرى.
وإن شاء البعض التعمّق في الأهداف التي سعى إليها هوكشتاين في الفترة الأخيرة، يثبت لديه انّ ما وظفه من قدراته واتصالاته الواسعة التي شملت عواصم عدة خليجية وأوروبية، كان بهدف ضمان الظروف التي تعزز التفاهم المنجز وتحميه من أي ضغوط داخلية وخارجية. ومن هنا يمكن فهم ما طلبه من دعم مباشر من الرئيس الاميركي جو بايدن شخصيًا للتدخّل وطمأنة الجانب الاسرائيلي، بما يمكن توافره من ضمانات مطلوبة، تدفعه للإسراع في نيل جوابه الإيجابي على الطرح اللبناني الأخير، قبل ان يعود هوكشتاين الى بيروت حاملاً إليها ما وفره من الضمانات التي طلبها لبنان الرسمي.
وانعكاسًا لهذه الأجواء التي بقيت متداولة في الساعات الاخيرة على نطاق ضيّق في الكواليس اللبنانية ترجمها بيان بعبدا أمس الاول، عندما قال تزامنًا مع الاعلان عن الموعد الجديد الذي حدّده هوكشتاين لزيارة لبنان نهاية الأسبوع الجاري قوله، إنّه “سمع من الجانب الأميركي أنّ الجهود المبذولة حاليًا للتوصل إلى اتفاق عادل هو أولوية قصوى بالنسبة إلى الجانب الاميركي”. وجاء هذا التأكيد غير المسبوق بالنسبة إلى الجانب اللبناني معطوفًا على إصرار البيان على اعتبار أنّ “معظم التقارير الإعلامية التي نُشرت أخيرًا حول مهمة هوكشتاين مبنية على تكهنات وليست دقيقة”.
وعلى هذه الخلفيات، يبدو انّ الجانب الاميركي قد بات مرتاحًا إلى الظروف التي تعمل فيها الحكومة الإسرائيلية، بعدما صدرت مجموعة من الإحصائيات لمزاج الاسرائيليين المدعوين إلى الانتخابات، والتي تحدثت عن تقدّم ملحوظ للقادة الحكوميين المنضوين تحت لواء تحالف رئيس الحكومة يائير لابيد ووزير الدفاع بيني غانتس اللذين يخوضان المواجهة مع بنيامين نتنياهو. فإلى الإقرار بفوز الجانب الاسرائيلي بالحدّ الأقصى من مطالبه في حقل “كاريش” كاملًا، وطي الحديث عن الخط 29، فإنّ الحكومة الحالية أقنعت اكثرية مواطنيها بقدرتها على ضمان أمنهم ومصالحهم بطريقة قلّلت من اهمية انتقادات نتنياهو لها بالخنوع.
ولا تتجاهل القراءة لقوة الحكومة الاسرائيلية التي يدعمها بايدن، ما حققته العملية العسكرية التي قامت بها لثلاثة أيام في غزة في الداخل الاسرائيلي، والعمليات الأخرى الموضعية التي نفّذتها في نابلس ومناطق مختلفة من غزة والضفة الغربية، وخصوصًا انّها لم تلق الردّ الفلسطيني الجامع الذي كان منتظرًا كما حصل ايام نتنياهو.
ويُضاف اليها جميعها ما انتهت اليه الغارات المكثفة التي نفّذتها في الفترة الاخيرة على اكثر من منطقة سورية لمواقع ومنشآت واسلحة، قيل انّها سورية وايرانية، ولم يردّ عليها الجانبان بأي عمل يقلقها. فقصف مطار دمشق في 11 حزيران الماضي وإخراجه من الخدمة الفعلية لأيام عدة، قبل الإغارة مجددًا على مطاري حلب ودمشق بفارق دقائق قليلة وما بينهما قصف ميناء طرطوس، عززت موقع الحكومة عشية الانتخابات، وأعطتها زخمًا كافيًا يمكن استغلاله في إمرار الاتفاق البحري مع لبنان من دون معارضة داخلية تُذكر، قبل ان تنتقل إلى مرحلة جني أرباح مخزونها في “كاريش” ومجموعة من الحقول الاخرى. ولتكتمل الصورة عن المشهد الجديد، تقول المعلومات انّ هوكشتاين سينقل إلى لبنان ضمانات مشابهة لتلك التي تطمئن اسرائيل، وأبرزها قبول الجانب الاسرائيلي بالطرح اللبناني الأخير، بالإضافة إلى الضمانات الاميركية التي ستسمح لشركة “توتال” باستئناف نشاطها في لبنان فور الإعلان عن التفاهم وإقفال الحديث عن مناطق متنازع حولها في المنطقة.
وثمة حديث مضاف عن تأمين البديل في “الكونسورتيوم الثلاثي” باحتمال حلول الشركة الوطنية القطرية للبترول مكان شركة “نوفاتيك” الروسية. فهوكشتاين قصد الدوحة أكثر من مرة لهذه الغاية، وهي خطوة إن تحققت تضمن زخمًا خليجيًا يدعم مهمة “توتال” الفرنسية و”إيني” الايطالية بشراكتهما مع قطر. وإنّ طوي الحديث عن اي تغيير في الخط المستقيم على طرفي البلوكين 8 و9 كما رسمه لبنان، وجد الحل لـ”حقل قانا”. فإنّ ثبت انّه يمتد إلى عمق البلوك 72 الاسرائيلي فأي تعويضات اسرائيلية مالية مطلوبة ستكون من حصة شركة “توتال” الفرنسية، ولا علاقة للبنان بما يقود إلى اي شراكة مالية توحي بالتطبيع مع العدو الاسرائيلي.
عند هذه المعلومات، والتي لا ينقص سوى تأكيدها في قريب الأيام متى عاد هوكشتاين إلى بيروت، فإنّ هذه المعطيات تقدّم مشهدًا جديدًا للمنطقة، وتضيف عنصرًا ايجابيًا لمهمة هوكشتاين متى تقدّمت بمراحلها إلى حيث تقود من تفاهمات.. فلننتظر.